شهادات قصصية لكاتب تلبسته روح شهرزاد

عواد علي

حين تشكّل الكلمة حياة الكاتب وقضّيته وخلاصه وزهرة يقظته الواعية، تمنحه عالمها ونبوءتها النابعة من الوجدان والعقل، وتمكّنه من فتح محارة الأسرار، وتدوينها بالكتابة بغية التواصل مع الحيوات الأخرى، المستقبِلة والمؤولة والمنتجة، ذلك التواصل الذي هو بمثابة الولادة نهوضا ثم فرحا.

هكذا هي الكلمة بالنسبة للقاص العراقي علي السباعي، ابن الناصرية، سليلة أور والوركاء وأريدو، المدينة التي تُعدّ من أبرز المدن العراقية في حضورها الأدبي والفني والفكري. وقد اختار أن يعبّر عن سحر الكلمات، ويفيض بتجلياتها عبر فن القصة القصيرة، الذي وجد فيه ذخيرة عمره كله، فكانت مجموعاته الست المنشورة “إيقاعات الزمن الراقص”، “زليخات يوسف”، “بنات الخائبات”، “صرخة قبل البكم”، “احتراق مملكة الزاماما”، و”مدونات أرملة جندي مجهول” شاهدا مضيئا على تولهه بالحكي، وإصابته بمس شهرزادي. وفي هذا الصدد يقول “أنا أكبر عاشق في الناصرية. وقعت في غرام القصة التي طرقت باب قلبي ولم تغادره، القصة هي الحب، إنها علاقة حب أُغرمت بها ونذرت نفسي لها”.

يشبّه أحد النقاد علي السباعي بطائر مالك الحزين، كلما جرحه الزمن العراقي ازداد تغريده، وتواصلت زقزقاته قصا ونثرا وغناء، فهي سلاحه في كل المحن والانكسارات التي أصابت العراقيين، لأنها جرعة أمل وطريق حالم لمناهضة الظلم والقبح، وتحقيق العدالة الاجتماعية، وإشاعة الجمال.

في كل مجموعاته القصصية يحاكي عوالم وفضاءات ألف ليلة وليلة، ويسبغ جغرافية متخيلة على مدينته الناصرية، ويستدعي أبطال حكايات شهرزاد، ويعيد للحارات القديمة، التي حاول الخراب طمسها، أسماءها التي كانت عليها، ويطلق حكايات هزار والسندباد، وسكارى الحواري، ومجانين المدينة وعيّاريها وشطّارها، ويستل سيف شهريار، ويزيح عنه دم الضحايا ليدافع به عن حقوق النساء، ويقارع أمراء السوء الجدد المترعين بالجشع والرغبات المتوحشة. ومن الرماد والفجائع والمشاهد المتشحة بالسواد يلتقط أنفاسه، مدونا التفاصيل بدقة وصدق، ومرمما هياكل وأرواح المهمشين المختفين تحت سطح التناقضات الاجتماعية.

بعد مجموعاته القصصية الست، أصدر علي السباعي مؤخرا كتابا بعنوان “شهرزاد: قدري” عن دار صافي للترجمة والنشر والتوزيع في واشنطن، وهو كتاب اعترافات وشهادات بصيغة سيرة قصصية يتضمن أربعة فصول: “تراجيديا النصر أو الموت” “الحياة أقصر من فتيلة قنديل”، “شهرزاد: قدري”، و”الاحتراق الكامل في مملكة الزاماما”.

كتب في الفصل الأول “لقد أنفقنا عمرنا كله نهتف مذ كنا بعد صبية صغار إلى الآن: إما النصر أو الموت!!! ترى هل باستطاعة الأدب أن يغير هذه الفوضى؟”، ودون في الفصل الثاني “كتب شاعر سومري مجهول على لوح عمره وُجد في أور، ويعود إلى أكثر من ستة آلاف سنة: حياتنا أقصر من فتيلة قنديل المعبد/ لنعانق جديلة الشمس الطويلة/ وأحلام الناس الضائعة/ ونسافر بها إلى الأبد”.

ويعلق الكاتب على ذلك بأن لا شيء في الدنيا بلا قول، ولا شيء يعادل الكلمة، لأنها الأصل، ولا شيء يعادل جمالها، حين تكون إشارية موحية، متخفية وراء كوم من القصص والحكايات. ويضيف في تضاعيف هذا الفصل، أو الشهادة “كان بدون إذن مني يتربع المنسيون من أبناء شعبي المظلوم على هياكل كتاباتي، ويدخلون قصصي بلا وجل. وكأنهم يمارسون ما اعتادوه في أيامهم وساعاتهم المنسية، كما هم. لكني كنت أقتنص، بكل مودة، انشغالاتهم بحياتهم”.

ويعترف في الفصل الثالث قائلا “تعلمت من مدرسة الحياة أن الموسيقى والشعر هما أجمل ما يمكن أن تعطيه الحياة في هذه الدنيا باستثناء الحب، لذا أحببت القصة، لأن العلاقة بين الإنسان واللغة هي كالعلاقة بين الرجل والمرأة، إنها علاقة حب”. أما في الفصل الرابع فيكتب السباعي قائلا “أسأل نفسي كثيرا، بعدما أفرغ من كتابة كل قصة بدمي: ترى هل ابتعدت كثيرا عن الواقع؟ أعتقد بأن قصصي قد ابتعدت كثيرا إلى درجة أنها اصطدمت بالواقع، فأردت لها أن تكون هي الواقع عينه”.

يحمل كتاب “شهرزاد: قدري” سمات سرد يستغور أعماق واقع العراق الساخن، المر، المبتلى بالفواجع، والمليء بالحكايات والحالات الإنسانية، من خلال بؤرة واحدة تقوم على المزاوجة بين خفايا الحياة الشخصية للكاتب (السباعي) والكوارث التي حلّت ببلده “شهريار، هذا المخلوق العجيب الذي يواصل حتى اليوم لعبته الخطرة، لعبة الموت، دون أن يرف له جفن على حجم الكوارث التي تسبب بها”. وإذا كانت شهرزاد قد انتبهت بالأمس للدم والألم والخراب والدمار، بعد أن سكتت عن كلامها المباح عقب ليلة وألف مثلها، فإن السباعي ينتبه للعبة الموت الخطيرة، ويكتب عن عالم يعيش تفاصيله يوميا في كل الفضاءات التي ينغمس فيها.

(العرب)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى