موزارت .. الكائن المحتشد بالتناقضات

-عبدالله حسن-

إلى حدٍ ما، يبدو أن الآداب والفنون التي لحقت وتتبّعت تراجيديا حياة الموسيقار النمساوي صاحب “قدّاس الموتى” هي من قتلته، وليس التهاب البلعوم وحده (حسبما ذُكر)؛ ولعل المرور الخاطف للموسيقيّ الطّفل، ورحيله المبكّر كأحد العباقرة قد ألقى بذورًا ملائمة لبلورة سيرة ذاتية ملتَبسة تلوّنت بتلوّن العصور التي تفصلنا عن مماته.

صوّر الأدب لجماهيره ملامح موزارت كـ شخصية خالدة من زاوية ضيّقة مقارنةً بمفرزه الفني، وذلك حين عمد إلى نسج الخرافات حول تفصيلات عدّة من حياته، وظروف مماته شابًا في الخامس من ديسمبر/ كانون الأوّل عام 1791، وجعل منه كذلك مادة دسمة للتخمين وشطحات الخيال.

لقد كانَ موزارت فقيرًا مُعدمًا، عضّه الجوع بنابه، وخلت صحون بيته من الطعام، وظلّ الفقر يلاحقه حتى آخر أيّام حياته تقول السرديّة الكبرى، بينما صوّره الأدب على أنه كان الملاك المُنزل من السماء إذ -على حد اعتباره- كيف لمبدع ألا يكون نبيلًا، وكيف للعبقرية ألا تنتمي أو تكون في جوهرها قائمة على أساس طبقي؟

حين اشتغل شاعر روسيا الأول ألكسندر بوشكين في مجموعة “تراجيديات صغيرة” المنشورة عام 1830 على قصة الموسيقار الشهير، كان قد “لملمَ” عمليًا الشائعات من هنا وهناك ليقول إن المؤلّف الموسيقي الإيطالي سالييري هو الرمز الأوحد للحسد، وهو السبب الرئيس في موت موزارت؛ وهذا ما تبنّاه لاحقًا المسرحي البريطاني بيتر شافر في مسرحيته “أماديوس 1979″، التي حوّلها ميلوش فورمان إلى فيلم سينمائي عام 1984.

ما فعله بوشكين من تعبيرٍ عن الندم إزاء تهميش الجمهور لـ موزارت هو ظلم لسالييري، وتعدّ على المدرسة الموسيقية الإيطالية لصالح الألمانية في صراعهما آنذاك، وتغيير لكثير من الحقائق التي نقلت عن فولفغانغ؛ هذا كله -دعنا نطلق عليه (مظلومية موزارت في الأدب)- أساء للموسيقى الكلاسيكية ونزع عنها أهم صفاتها حين أراد القول: لم يَخذل الجمهور (القائم على أساس طبقي) موسيقاره.. إننا نحبّه ونقدّر موسيقاه.. لكنه مات محسودًا ومسمومًا.

على أي حال.. لربما أنصفَ فورمان في فيلمه الشهير أماديوس حين عمد إلى كسر الصورة الملائكية عنه، وروى القصّة بشكل أكثر واقعية من سابقيه.. صحيح أنه استبعدَ أن يكون سالييري قد دسّ السم له في الشراب كما في مسرحية بوشكين، إلا أنه اتخذ موقفًا وسطًا فلم ينفِ صلة سالييري بذلك، حيث يقول فورمان: “لقد مضى وقت طويل قبل أن أتخلّص من التصوّرات السّخيفة التي عشّشت في دماغي عن موزارت.. بعد مشاهدتي لمسرحيّة شافر أدركت جيدًا أنّ موزارت ليس الملاك الذهبيّ الشعر، الجالس على ركيزة مرمريّة، إنّما هو كائن محتشد حد التخمة بالتّناقضات”.

ما يهمّنا هو أن الفيلم أظهر موزارت وموسيقاه كفتى متمرّد، عنيد، متشبث بذاته، هزلي، ملوّن، غير مكترث، والأهم من ذلك هو أنه شدّد على كون الموسيقى وليدة هذا المكان، من عفويتها وشعبويتها وعبقريتها وسلاسة ازدحامها، من رحم العوز والحاجة إليها، ومن لامبالاة الآخر بها أيضًا.

إن ما تقدّم ذكره عن موزارت هنا لا يبتغي تناول شخصيته من باب السرد الدرامي لحادثة تاريخية جرت، بقدر ما يستدعي التوطئة للحديث عن الموسيقى (الكلاسيكية) كـ فن لا يمكن عزله بحال من الأحوال عن شخصية الفنان إذا ما اتفقنا أنا وأنت طبعًا على أن الغرض من الفنون ليس المتعة وحدها؛ موزارت هنا هو تجسيد لحال الموسيقى، ولطريقة تعاطي الجماهير معها في حقبة زمنية معينة لا أكثر.

للموسيقى الكلاسيكية كما هو معلوم طابع تاريخي وثيق بالطبقات المجتمعية “النبيلة” -حسبما يصفونها- لايزال مرتبطًا بها إلى الآن. من هنا حذت استوديوهات أمازون مؤخرًا حذوَ (شافر، وفورمان) حين أنتجت مسلسلًا تناولت فيه حال هذا الفن لكن بواقعه المعاصر، أو دعنا نقل إنها تحدّثت في العمق عن “أماديوس” وليد القرن الحادي والعشرين المقيم في نيويورك (أهم مركز مالي عالمي).

يحاكي “موزارت في الأدغال” المنتَج أواخر كانون الأول/ ديسمبر 2014 حياة أماديوس بأسلوب عصري كوميدي جميل، ينقله من خلال تلك القصّة بمواسمها الثلاث -حتى الآن- إلى عالمنا الحديث بقواعده وقوانينه الناظمة.

تتعاقد أوركسترا نيويورك العريقة بعازفيها كبار السن، مع مايسترو في مقتبل عمره يدعى رودريغو، مكسيكي الجنسية، ليتولّى قيادتها؛ إلا أن موزارت هذا يجد نفسه وسط غابة يتصدّر الفساد المالي أوّل صفحاتها وتتجسّد المشكلة الأبرز لديه في البذخ نفسه، ما يضعه أمام تحدٍ حقيقي ومفاضلة بين الموسيقى وعزلتها، أعضاء الأوركيسترا ومعياريّة اختيارهم، الجمهور وتطلعاته واهتماماته، الأرباح ومضاعفتها، إضافة إلى مستقبل المايسترو كفنان في عالم غرائبي يتصارع على الإنتاج والاستهلاك.

تتخلّل حلقات المسلسل تبعًا لتطوّر أحداثه حوارات مُتَخيَّلة بين موزارت وموزارت من حين لآخر لدى كل محطة تتقاطع فيها القصّة الحديثة بتلك التي تناقلها التاريخ، تتموضع معها النقاط في أماكنها الصحيحة على الحروف. ما الذي فعله الجمهور سابقًا، ولماذا فعل ذلك، وكيف تعامل فيما بعد، وكيف هو الآن يحدّد نوع الموسيقى التي يريدها، ويمنحها القيمة أو ينزعها عنها.. كيف أسيء للموسيقى عندما أُلصقت ألوانها بفئات مجتمعية معينة، وأسئلة أخرى كثيرة يحاول الإجابة عنها.

العمل الحائز على جائزتي “غولدن غلوب” عن أفضل ممثل وأفضل مسلسل عام 2016، والمستند إلى كتاب “Mozart in the jungle sex drugs and classical music” يريد أن “يعيد الاعتبار للموسيقى الكلاسيكية”، حسب القائمين عليه، ويأخذ الدراما التلفزيونية بشكل منافس مأخذًا مغايرًا لما ذهبت إليه شركات الإنتاج الأخرى؛ والأهم من ذلك (الموسيقى)، الركيزة التي احتفظت بمعنى أن يكون الإنسان جديرًا بالاحترام والتقدير.

يقول إميل سيوران: “اللانهائي (الراهن) الذي تعتبره الفلسفة غير معقول، هو حقيقة الموسيقى وماهيّتها”، ويقول: “إن موسيقى باخ هي الحجّة الوحيدة التي تبرهن على أن خلق الكون لا يمكن اعتباره فشلًا تامًا”، ويقول كذلك: “من الصعب معرفة ما تستثيره الموسيقى في دواخلنا، لكن ما نعرفه هو أن الموسيقى تصل إلى منطقة غائرة العمق، إلى الحد الذي لا يستطيع حتى الجنون نفسه التسلل إليها”.

 

(ملحق جيل /العربي الجديد)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى