دلالة العلامات والرموز في منجز التشكيلي العراقي فائق العبودي

محمد البندوري

تتبدى الأسس الجمالية، وتظهر مختلف العلامات والرموز في المنجز التشكيلي للفنان فائق العبودي بشكل لافت، وبمظهر ساحر. فالاستعمالات الرمزية ومختلف التعابير تغذي مجال التجريد بحرفية ودقة في الأداء. وتكمن سرية التطور والرقي الفني في أعمال الفنان فائق العبودي في موسوعيته الثقافية والمعرفية والعلمية، فهو يقارب بين هذه المفردات والعناصر، وبين المادة التشكيلية في عمقها الفني. عن طريق تدجيج الفضاء الناعم بعدد من الرموز الإيحائية، والعلامات الأيقونية الدالة على عدد من المعاني المولدة لجملة من الدلالات.
وهو في الإطار النقدي يعبد الطريق للتأصيل لثقافة تجريدية فنية، تمتح مقوماتها من المجال المعرفي والعلمي والتقني والسميولوجي، ومن الثقافة المحلية المنفتحة على مختلف العوالم. وهو ما يخصب المادة التجريدية لديه، ويمنحها تأصيلا ذاتيا في نطاق أسلوب تشكيلي معاصر. إنه يتخذ من هذا النسيج الإبداعي أداة لابتكار تدفقات رمزية جديدة وعلامات فريدة وأشكال متنوعة، يمزجها بالألوان المنتقاة بدقة وعناية، وهي في جوهرها مغايرة للأساليب الكائنة، فيستنطقها وفق ميولاته الفنية، ووفق البنيات الأساسية للتشكيل المعاصر. ولعل الكثافة الرمزية والعلاماتية والأشكال المتداخلة والتوظيف المتقن؛ تفصح عن روح الحوار الفني، وعن مختلف العلاقات التشكيلية والروابط التي تجمع بين مختلف المفردات والمكونات التي تغطي الفضاء بأكمله، وتدعم قاعدة الحجب الفنية. إنها العمليات الوجدانية التي تسكب مختلف التأثيرات الواقعية في قوالب فنية، بتوازن في الأداء وبتوليف بين مختلف العناصر، ما يسهل عمليات التفاعل مع الأشكال الغامضة، ويحرر الأعمال التجريدية من كل القيود. وهو مسلك قويم ونهج معاصر رائق، يسلكه الفنان فائق، بل إنه يعد إضافة نوعية جديرة بالدراسة والبحث في المجال التشكيلي الآني، إنه فلسفة قيمية تحمل مضامين مليئة بالدلالات العميقة، التي تنبثق من جوهر التجريد المعاصر، الذي يستجيب لضرورات الأعمال الفنية، ويتفاعل مع الثقافة المحلية والكونية.
وهو كذلك نهج معاصر يبرر حرية الروح التعبيرية الصرفة، والأسلوب التشكيلي المعاصر. وهذا في المجال النقدي يرسل انطباعا بأن الفنان فائق العبودي يضمر في حجب أعماله قضايا متنوعة، يوظفها تشكيليا بدقة وتنظيم لوني جذاب، يحافظ على قيم السطح ويربط جوهريا الشكل بالمضامين بأسلوب فني متفرد، وتوظيف جمالي معاصر، يخلد به الفنان بصمته الفنية ومسلكه الإبداعي المعاصر الذي يشكل في عمقه تعبيرا تجريديا معاصرا جديدا. إن الشحنات اللونية الدقيقة الوضع، والأشكال المتنوعة في علاقاتها مع الخطوط المتداخلة، ومع الألوان، ومع الشحنات الضوئية وما تحمله من معان شكلية، وما تحدثه من جذب للرؤية البصرية؛ كل ذلك يشكل توظيفا فنيا مغايرا للمألوف في إطار صيغ فنية تتجدد وفق سمات ومسالك تجريدية معاصرة. وهي تعكس التوجه الصريح والمنحى القويم، والأسلوب المائز للفنان فائق العبودي. فهي تجربة فريدة ذات مصادر فنية أساسية متجددة تحقق المسلك التشكيلي الرائد، وتنتج المادة التجريدية الجديدة المعاصرة. وإن للتقنيات العالية، والمؤهلات الكبيرة والقدرات الفائقة دور كبير في توظيف مختلف المفردات الفنية، وتثبيت مختلف التصورات والرؤى، والاشتغال بمنهجية فنية محكمة، مما ينزاح بالأعمال عن كل ما هو معتاد وينزهها عن كل ما هو مألوف، بل يجعلها تشكل قوة تشكيلية حقيقية في صناعة الجمال التجريدي برؤى جديدة تتبدى فيها أهم الإبداعات الفنية التي تروم التجديد والعصرنة والتطور على شتى المستويات. فإنتاج الجماليات عن طريق التجريد المعاصر، وإبداء سماتها في نطاق مسلك تجريدي يخضع لأشراط التفاعل الباطني وإزالة الحجب، وهو تفاعل يؤكد قطعا المسالك الجمالية التي تُكشَف بوسائط فنية تُلبِس القارئ عشق التجريد ليتفحصها ويكشف عن محتوى المادة الباطنية. إنه توجه جديد، وخطاب فريد يطبعان التجربة المميزة للفنان فائق العبودي.
وإنه كذلك منشأ مليء بالتحولات الفنية الإيجابية، ومتموضع على أسس معرفية، ومتشبع بقيم لونية تجسد المخفي، من خلال مفردات إبداعية وعناصر تشكيلية مرتبطة أساسا بصرامة العلامات والرموز التي تملأ كل أرجاء الفضاء، والتي تشكل أيقونة دالة على معاني كثيرة، ودلالات متنوعة غزيرة، تتجاوز حدود المكان والزمان، لتطرح مختلف المضامين في لمسات إبداعية وتركيبات تجريدية جديدة، تتلاءم فنيا مع تكوينات المادة التشكيلية المعاصرة، وتتجاوب مع الصناعة الفنية التي تعتمد التجربة المعرفية، وتستند إلى الأسس العلمية، لبسط مجال الإبداع بمعرفة عالمة ووعي بحيثيات التجريد، وهو ما يؤهل الفنان فائق العبودي ليطرق هذا الأسلوب الجذاب والمعاصر، المتصل بجديد التصورات، والمرسخ لخاصيات التشكيل المعاصر.
إن التجربة التشكيلية لهذا الفنان العراقي المميز، تأخذ بعين الاعتبار خاصية التعدد العلاماتي والرمزي والإيحائي والإشارات والتلميحات التشكيلية، وهو ملمس في منجزه التشكيلي، الشيء الذي يمنح مادته التجريدية لحنا فنيا جديدا، وينحى بها نحو تعددية القراءة، وإنه أيضا يُصيغ معجما تجريديا مليئا بالرموز والعلامات يمنح القارئ فرصة ثقافية وفنية حول التجريد المعاصر ليجول به في عمق المادة التجريدية بصيغ رمزية وعلاماتية وجمالية متعددة، تُظهر المادة التشكيلية عموما لديه في شكل كوني يُشرك حس وبصر القارئ في العملية الابداعية، إنها المهارة الكبيرة، والتوظيف التقني الدقيق الذي يتوفر عليه الفنان التشكيلي فائق، وإنها كذلك التجربة العراقية الرائدة في مجال التشكيل.

(القدس العربي)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى