الهجاء الحميم

خيري منصور

نادرا ما تقترن مفردة كالهجاء بكل دلالاته السلبية بما هو إيجابي وحميم، رغم أن هناك الكثير مما كتب عن نفاق المديح، وما ينطوي عليه من دوافع الاسترضاء والتكسب، وما أعنيه بالهجاء الحميم، على الأقل في هذا السياق، هو ما كتبه مثقفون وشعراء وروائيون عن مدن ولدوا فيها وأحبوها، لكنهم شعروا في مرحلة ما بقسوتها، فكان الهجاء أقرب إلى العتاب من العقاب، والفارق بين مدينة يشعر المرء انها أمّه وأخرى يحس كما لو أنها زوجة أبيه، هو أن الأول يطمح بتسامح الأم واحتضانها في نهاية المطاف، بينما يشعر الثاني بأنه بحاجة إلى زوج أم قوي وعادل يحميه من زوجته.
وحين قرأت ما كتب من أدب حول مدن بدءا من نيويورك ولندن وباريس وليس انتهاء بالقاهرة وبيروت ودمشق وبغداد، شعرت بأن ما كتب من هجاء لهذه المدن يليق به ما أسميه الهجاء الحميم، فقصائد الشعراء ألن غنزبرغ وكورسو وكتابات وليام سارويان وهنري ميلر عن نيويورك، إضافة إلى ما كتبه شعراء وكتّاب غير أمريكيين من هجاء لتلك المدينة مثل ليوبولد سنجور وأدونيس وهنري باربوس ولوركا، تقدم نيويورك مدينة حجرية شرايينها من حديد وفولاذ ومفاصلها أصابها الصدأ، كما في قصيدة سنجور الشهيرة، أو أنها مجرد حيلة هندسية بين الإجاصة والثدي، كما في قصيدة أدونيس، وقد تكون نيويورك جديرة بلقب عاصمة الهجاء في القرن العشرين لكثرة ما كتب عنها من أوصاف سلبية، فالإنسان فيها يضيع على بعد أمتار من بيته، كما قال سارتر، ولم يحدث أن عاقبت نيويورك أحدا ممن هجوها، أو رفعت ضده شكوى قضائية، وكذلك لندن المدينة العملاقة الساحقة للإنسان كما في قصائد ت. س. أليوت الذي تجاوز لندن إلى عدة عواصم ومدن أخرى منها باريس ونيويورك وروما ليصفها في قصيدة «الأرض الخراب» بأنها مدن زائفة.
وفي شعرنا العربي الحديث نجد هجاء يصل حدّ التقريع لمدن عربية مثل بيروت وبغداد ودمشق، منها على سبيل المثال ما كتبه السياب عن بغداد في عصره، واصفا إياها بأنها مبغى كبير، أو ما كتبه البياتي في قصيدة بعنوان «إلى ولدي علي» وهو مدن بلا فجر تنام، وكذلك خليل حاوي في قوله، «تولد الفكرة في بيروت بغيا ثم تقضي العمر في لفق البكارة». وقد ذهب محمد الماغوط إلى ما هو أبعد، حين قال «إن دمشق بددت ماء بردى النهر الالثغ الصغير على الغرغرة وغسل الموتى» فهل أحب هؤلاء المدن إلى حد هجائها، لأنها خذلت أحلامهم، وهل كانت تلك المدن أمهات أم زوجات آباء؟ هناك مدن في هذا العالم لا يتجرأ أحد من أبنائها على هجائها، ليس عشقا بل خوفا منها لأنها أقرب إلى زوجة الأب التي تتظاهر بالحنان أمام الآخرين، لكنها سرعان ما تعود إلى موقعها كنقيض للأم، لهذا فهي كما ورد في الحكاية السليمانية تقبل بتقسيم الطفل وتحويله إلى أشلاء، بعكس الأم الحقيقية التي تتنازل عنه كي يبقى حيا.
وفي واقعنا العربي ثمة ظواهر، منها ما ينتمي إلى قارة المسكوت عنه والمحظور الاقتراب منه، إضافة إلى ظواهر أخرى تنتمي إلى قارة المجهول، أو ما يسمى اللامفكر فيه، منها مثلا الانصراف التام لرصد المشاهد السياسية للحكم على منسوب التمدن في النسيج الاجتماعي، على حساب كل المجالات الأخرى. ولو أخذنا التوريث السياسي مثالا فقد حظي بالاهتمام كله، وقد يكون نجح لبعض الوقت في مكان ما، أو تم إجهاضه في مكان آخر، لكن التوريث في مجالات أخرى كالفن والثقافة والتشكيلات الحزبية والنقابية نجح وحقق الهدف بلا رصد او استهجان، وقد تكون السينما هي النموذج الأبرز، فقد أحصيت أحد عشر وريثا من جيل واحد، رغم أن مقولة فرخ البط عوّام لا علاقة لها بالفنون والثقافة، وثمة ما هو أصدق منها وأدق وهو أن النار قد تخلف رمادا.
وهناك مجتمعات عـــــربية ذات قشرة مزخـــــرفة من العمران والتمدن، لكن الباطــــن عكــــس ذلك، بحيث يحظر استخدام اسم قرية أو مدينة أو عائلة في رواية أو فيلم أو مسلسل، ولا بد أن مصر قطعت شوطا طويلا عمره أكثر من قرن كي يصبح متاحا للمؤلف أو السيناريست أن يقدم شخوصا منهم البغي والمجرم وتحديد القرى والمدن التي ينتسبون إليها.
إن انصراف الذهن إلى رصد ما هو سياسي فقط، ومن خلال الظاهر للعين المجردة فيه إغفال لظواهر بالغة التعقيد والأهمية، اجتماعيا وبالمفهوم المدني، والمسألة في نهاية الأمر ليست في ما يعرض على السطح فقد يخفي الرخام سخاما كما يقال في الأمثال، لهذا علينا كما يقول مثل فرنسي أن نكشط الفسيفساء كي يتضح لنا الطين وما يعشش تحته، وأن نختبر الطلاء كي يتضح الجوهر.
أذكر أن ميلر قال في أحد حواراته إن هجاءه لأمريكا كان تعبيرا عن حبه وحلمه بأن تكون أبهى وأكمل وربما كان هذا دافع أليوت، وهو يكتب عن لندن مقارنا بين زمنين، ومن خلال نهر التايمز الذي كان شاطئه ذات يوم ممتلئا بقوارير العطر والمناديل الحريرية، وأصبح يعج بعلب الصفيح الفارغة والأوراق الملوثة. إن المقابل المنطقي للمديح الكاذب والمنافق هو الهجاء الحميم.

(القدس العربي)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى