حدّة بصيرة.. قصة قصيرة ل “ريما الريماوي”

-ريما الريماوي-   خاص (الجسرة)

تراجعت إلى الخلف مبتعدة حين مدَّ يديه الاثنتين إلى وجهي يريد تحسّسه، فكّرت “: يا لوقاحته! كيف يجرؤ”؟!
لكنّه استغرب نفوري: “آسف إن أزعجتك، سامحيني..”
“- اعذرني، حان موعد محاضرتي، سعدت بمعرفتك، وداعًا”.
“- انتظري، أودّ مرافقتك لاحقًا لزيارة أهلك للتعرّف على والدك الذي سمعت عنه الكثير”.

ارتبكت، لقد أحرجني طلبه، كان يشرق بابتسامة مرحة تملأ وجهه، ولم أستطع ردّه خائبا للمرة الثانيّة، وعدته خيرًا، ومضيتُ راكضة حيث كلّيتي الكائنة في الجامعة بعيدا عن الكليّة التي يدرس فيها.

يتنازعني الندم على قيامي بتعريفه على نفسي، ممزوجًا بإحساس الفخر به، هو يحمل اسم عائلتي، واسمه موجود على لوحة الشرف لطلّاب الجامعة الأوائل، فكان التعرف عليه سهلًا!

لكن مسألة مصاحبته إلى بيتي ما فتئت تضايقني، فأنا خجولة وليس من عادتي اصطحاب أحد من زملائي إلى البيت، عدتُ بأفكاري إلى لحظة تملّصي من بين يديه، قائلًا:
“- لكنني أودّ التعرّف على ملامحك”.

نظرتُ إلى عينيه، كان هنالك فراغ أجوف، يفيض فيهما سائل مغث، والمحجر بلون الأحمر القاني كجمر النار. نعم هو أعمى لا يحمل عصا، لهذا سأكون مضطرة أن أتأبط ذراعه، ولم أك لأرغب بذلك.

سألته بجرأة: “لماذا لا تضع نظّارة سوداء؟ أعتقد أنَّ ذلك أفضل”!

هزّ رأسه رافضا بشدّة: “كلا! لا أرغب في إخفاء عيوني عن الناس، على من يودّ التعامل معي تقبّلي هكذا كما قد خُلقت”.

أعجبني منطقه، وشخصيّته المنطلقة، وكونه محاورًا فذًّا حادّ الذّكاء، لكنّني تمنّيت لو أخفى عينيه المخيفتيْن، كما وإنّه لم تعجبني جرأته في طرح الأسئلة، كالقذائف الواحد تلو الآخر، حتى حسبتُ نفسي أمامه كالكتاب المفتوح يعرف أصلي وفصلي وكلّ شيء عنّي.

نسيته أو بالأحرى تناسيته بعد انتهاء المحاضرة، وعدتُ إلى بيتي بالمواصلات، ينتابني شعور عدم الارتياح فليس من عادتي عدم الوفاء بمواعيدي.

فوجئت لما دخلت منزلي، إذ رأيته جالسًا في صدر البيت على الكنبة، يحتسي الشاي مع أفراد عائلتي، والكلّ على نار ينتظر وصولي. لم أستطع مداراة نظرات إخواني الصغار وضحكاتهم المكتومة، وأمي تحدجني متسائلة غير راضية.

برّرت له بارتباك أنّني قد نسيت موعده. فكّرت لكم هو محبوب وقد ساعده أحد زملائه بالوصول قبلي في سياّرته الخاصّة، وأوضح أنّه سيعود له بعد ساعة من الزمن، ومضت، وأنا ووالدتي على أعصابنا.
تحمّلت سخريتهم على تلك الزيارة ردحًا من الزمن. علمًا أنه لم يكرّرها مطلقًا، أعتقد أنَّه شعر بانزعاجي وسخرية أهلي، وأنا بدوري لم أحاول رؤيته أبدًا.

على الرغم من بقائي معه ساعات قليلة يومئذ، إلّا أنه لم يغب عن ذهني، واستمر تأنيب الضمير يطاردني، ماذا لو سمحت له بالتواصل؟ من المؤكد لاستفدت من علمه وذكائه، لكنني كنت غرّة صغيرة، أتعامل لأول مرة مع شخص حرم نعمة الإبصار، ولم أستوعب جيّدا السبب الحقيقي لرغبته في معرفة تقاطيعي، وسيلته للتعرّف عليّ.

بعد سنوات، اضطّررت لمراجعة إحدى الوزارات بخصوص معاملة لي لمتابعة الدراسات العليا، وجدتُ اسمه مكتوبًا بالبنط العريض عند باب مكتب المدير، فتحتُ الباب بهدوء وألقيتُ نظرة، هاهو جالسا هناك على مكتب فخم يرتدي فاخر الثياب، ويغطّي عينيه بنظّارة سوداء ثمينة.

بادرته السلام. رفع رأسه وأصاخ سمعه ثم هتف باسمي:”هل هذه أنت عزيزتي”؟!

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى