‘قلعة الرمال’ في هوليوود وعقدة الذنب في العراق

امير العمري

“قلعة الرمال” الذي أخرجه البرازيلي فرناندو كويمبرا، والذي يقيم ويعمل حاليا في أميركا، شأنه شأن الكثير من أفلام الحرب العراقية، يدور حول بطل فردي أو بالأحرى “نقيض للبطل” anti-hero هو “مات أوكر” (يقوم بالدور نيكولاس هولت) الذي يلتحق بالجيش في 2001 ليس عن إيمان برسالة الجيش أو رغبة في خدمة الوطن، كما يروي هو لنا عبر شريط الصوت من خارج الصورة في بداية الفيلم، بل بسبب رغبته في تدبير بعض المال الذي يتيح له استكمال دراسته.

ومع تصاعد الأحداث في 2003 وبدء الحشود الأميركية استعدادا لغزو العراق، يجد الشاب نفسه في أحد معسكرات الجيش الأميركي في الرياض، ورغم تعمّده كسر يده اعتقادا منه أن ذلك سيعفيه من الاشتراك في القتال، إلاّ أن هذا لا يفيده، فسرعان ما سيجد نفسه وسط الحرب في العراق مع مجموعة من زملائه في الوحدة العسكرية، الذين يتميزون عنه فقط بقدر من الخشونة والروح العبثية.

ما نراه من مشاهد تدور وسط الصحراء خلال الدوريات العسكرية التي يشارك فيها بطلنا الشاب، لا تختلف كثيرا عما سبق أن شاهدناه في أفلام أخرى كثيرة عن الموضوع نفسه: تعرض الوحدة لهجمات من جانب المسلحين العراقيين، التشكّك في كل من يقترب من سيارات الدورية، إيقاف سيارة أحد العراقيين كان يقودها بصحبة ابنته الصغيرة، وأجواء الهستيريا التي تنتج عن الشعور بالفزع من احتمال أن تكون السيارة ملغومة، الانتقال إلى مقر القوات داخل أحد القصور الرئاسية التابعة لصدام حسين وعائلته، أجواء العبث داخل المعسكر، تناول الطعام، الغناء على صوت الموسيقى الصاخبة، أحاديث الهاتف مع الزوجة أو الحبيبة في الوطن الأميركي، لكن المحور الأساسي للفيلم يتركز حول المهمة التي كلفت الوحدة القيام بها، والبحث طوال الوقت عن وسيلة لإنجازها دون خسائر.

مهمة إنسانية

كان الطيران الأميركي قد قام على سبيل الخطأ بنسف محطة المياه التي تزوّد السكان بالمياه النقية في قرية قرب بعقوبة، القريبة من بغداد، وكلفت الوحدة بإصلاح المحطة، على أن تقوم يوميا بنقل كميات من المياه النقية في شاحنة وتوزيعها على السكان.

المهمة إذن إنسانية تماما، ويجب أن يضع المشاهد الأميركي نفسه مكان مات أوكر البريء الناعم الذي لا يميل للقتال أصلا، بل يتمتع بروح إنسانية عذبة، يريد أن يساعد حتى بعد أن تتعرض الوحدة مرة بعد أخرى لإطلاق النار ومحاولة تخريب الشاحنة ونحوه. قائد الوحدة ومساعدوه يلجأون إلى أحد شيوخ العشائر في المنطقة لكي يساعدهم في إقناع عدد من الشباب العراقيين بالعمل معهم في إصلاح محطة المياه، لكن الرجل يرفض موضحا لهم أنه إذا تعاون معهم فسيكون مصيره القتل على أيدي المسلحين الذين يرفضون الوجود الأميركي أصلا، وبعد مناقشة طويلة، يقوم بطردهم خارج منزله مبديا الكثير من الاشمئزاز من وجودهم في بلاده.

هنا يضع الفيلم العسكريين الأميركيين الذين يريدون توفير المياه للناس، أمام شيخ العشيرة، الذي يفترض أن يكون أكثر حرصا على توفير المياه لأهله وعشيرته، خاصة ونحن نرى الكثيرين منهم يتجمعون يوميا وهم يحملون الأواني والأوعية لملئها بالماء في ظروف شاقة وسط حرارة الصحراء.

مدير مدرسة الأطفال القريبة يقترب من مات يشكو له خطورة انقطاع الماء عن المدرسة، وعندما يخبره مات برفض شيخ العشيرة التعاون معهم، يقول إنهم يتعاملون مع “الجانب الخطأ”، أي أنه على استعداد للتعاون، وبالفعل ينتج هذا التعاون قيام مجموعة من الشباب العراقيين بالمساعدة في إصلاح المحطة في مقدمتهم شقيق مدير المدرسة “قدير” وهو مهندس يفخر أمام مات بأنه درس الهندسة في جامعة الموصل، وينصحه بأهمية استكمال تعليمه.. هذه المفارقة مقصودة لتحقيق نوع من الموازنة بين ما حصل عليه العراقيون من تعليم “مجاني” (في زمن صدام) وما لا يتوفر أصلا للأميركيين، فمات يقول لقدير “لا يوجد شيء مجاني في أميركا”!

وسرعان ما يدفع مدير المدرسة حياته ثمنا لـ”الخيانة”، وتستمر الوحدة العسكرية الصغيرة في التعرض للهجمات وفقدان عنصر بعد آخر من أفرادها، لينتهي الفيلم دون أن نعرف ما إذا كان قد اكتمل إصلاح المحطة، لكن فقط سيصبح مطلوبا من مات أن يعود إلى الوطن بعد أن اكتملت مهمته في الجيش، كما يقول له قائده!

 

لن يعمر طويلا

المقصد الأساسي من الفيلم هو استعراض ما يواجهه الجنود الأميركيون في العراق من مشاق، وما يتعرضون له من اعتداءات من جانب أناس ذهبوا إليهم أساسا لمساعدتهم، لكنهم يرفضون المساعدة، ويقتلون كل من

 

يحاول أن يمد يد المساعدة إلى اليد الأميركية الممدودة بالود والسلام.

وهي رسالة لا تجعل من هذا الفيلم عملا يبقى طويلا في الذاكرة، رغم براعة مخرجه في إخراج مشاهد الحرب والدمار والاشتباكات، وبراعة مصمم المناظر في تجسيد البيئة الطبيعية العراقية في زمن الحرب، مع استخدام الكثير من التماثيل والصور الضخمة لصدام حسين منثورة على مدار المواقع المختلفة، بل إنه ينجح تماما في إعادة تجسيد القصر الرئاسي الكبير داخل المنطقة الخضراء في بغداد، والاستعانة بالطائرات المروحية والمركبات الحربية، مع عناية خاصة بكل تفاصيل الفيلم من ناحية الصورة والإكسسوارات والملابس، بفضل مونتاج جيد وموسيقى سريعة الإيقاع تساهم في خلق أجواء التوتر.

المشكلة الأساسية في بناء السيناريو، مع تحفظنا على رسالة الفيلم الموجهة للجمهور الأميركي أساسا، هي أن شخصية مات أوكر شخصية باهتة غير واضحة المعالم، لا جذور لها، بل وحتى عندما يسأله زميل له عن أبيه يقول إنه غادر الأسرة عندما كان مات في السادسة من عمره، وإنه بالتالي لا يعرف شيئا عنه دون أن يتحدث عن أمه.

أما باقي الشخصيات فهي لا تقل سطحية ونمطية عن الشخصية الرئيسية، فكلها أنماط سبق أن شاهدناها على تنويعات مختلفة، بل ربما بصورة أكثر إقناعا في أفلام أخرى قد يكون أهمها فيلم “غارهيد” (إنتاج 2005) الذي يعد من أفضل أفلام الحرب العراقية.

كل ما يستند إليه “قلعة الرمال” أن بطله الشاب صاحب التجربة الأولى في الحرب، لم يكن أصلا مؤهلا لها، ولم يكن يتوقع أن تنشب أصلا حرب سيجد نفسه طرفا فيها، لكن وقع ما لم يكن في الحسبان، وأصبح مطلوبا منه الصمود في وجه نيران “العدو” دون أن يفهم لماذا تقابل الرغبة “الأميركية” في تزويد السكان بالمياه النقية، بكل هذا العنف والقتل؟

ومع ذلك، لا توجد لحظة واحدة في الفيلم يمكن أن نستشف منها أن مات أوكر قد أصبح يتشكك أصلا في المؤسسة العسكرية التي أرسلته إلى حيث يجد نفسه غريبا مغتربا، ولا لحظة تأمل واحدة في ذلك المأزق الوجودي، أو الشعور بعبثية الموقف بأكمله، بل على العكس يصل الفيلم في نهايته إلى أن مات يرفض بشدة قرار رئيس المعسكر إعادته إلى أميركا، مصرّا على أن “الحرب لم تنته بعد”، أي أنه إذا كان قد بدأ “مغامرته” العسكرية على غير فهم أو قناعة أو ترحيب، فقد انتهى إلى ضرورة الصمود وإنهاء المهمة التي بدأها هناك في أرض غريبة لا يعرف عنها شيئا، بل إن كل فهمه يتركز في نهاية المطاف حول “قدير” المهندس العراقي يتمتع بلحم الدجاج الجيّد الذي تجيد زوجته طهيه وتزويده به يوميا في حين يأكل هو وزملاؤه “مأكولات محفوظة من النوع الرديء!”.

“قلعة الرمال” يلقى اهتماما من جانب مشاهدي “نيتفليكس” الباحثين عن جرعة من الإثارة المتوفرة في مشاهد الاشتباكات بوجه خاص وهي أفضل ما يجيد المخرج البرازيلي تصويره، ولكن لا شيء سيبقى بعد ذلك.

(العرب)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى