الكتابة النسوية… المفهوم والأطر المعرفية

رامي ابو شهاب

تعد الكتابة النسوية من المجالات التي لم تستقر معرفياً، حيث ما زالت تعاني من الغموض من ناحية المفهوم والطرح، وبوجه خاص القضايا التي تتبناها، أو تلك التي تحاول أن تقيم فيها تعديلاً، ضمن تقاليد منهجية واضحة.
ولعل هذا يتحدد من خلال وجهة النظر التي يمكن أن نعد من خلالها كتابة ما بأنها كتابة نسوية أو مختصة بالجندر «الجنوسة». وهذا المفهوم أو المصطلح لا يعني بأي شكل من الأشكال الاستقرار على نموذج خطابي متصل فقط بالمرأة، إنما هو مفهوم يعنى بوجهة النظر التي يتبناها الخطاب، أو تتبناها الكتابة، فثمة كتابة أنثوية أو «كتابة جنوسية»، ولكن ثمة أيضاً كتابات أخرى، بدأ يشير لها النقد الغربي، ولكن تبعاً للميول والرغبات التي تصاحب الأفق الذي تعبر عنه هذه الكتابة، وبذلك فإن هذا المفهوم يبدو قابلاً للتأمل، وإلى حد ما ينطوي على سعة في التعريف، ولكن العامل المشترك في هذه الخطابات اهتمامها بدراسة علاقات الهيمنة والسلطة، إذ ينهض هذا على تحليل طبيعة العلاقات والممارسات التي تخلل المجتمع والثقافة.
لا شك في أن الكثير مما يعدّ من الكتابة النسوية التي تنتشر في منصات التعبير، سواء أكانت ورقية أو رقمية، تأتي من لدن كاتبات، ولكنها لا يمكن أن تعد كتابة نسوية تبعاً لمنشئها، إنما ينبغي النظر في وجهة النظر، أو المكون الفكري الذي تتبناه، ومع أن ثمة تاريخا عميقا لتشكل الكتابة النسوية التي بدأت في الغرب، من منطلق الوعي بمعاناة المرأة، حيث أتت على ذلك سارة ملز في كتابها «الخطاب» متتبعة التطور التاريخي للكتابة النسوية، والنقد الذي صاحبها. هذا التنظير الخاص بهذا النوع من الكتابة، يتمثل أسساً واضحة، أسهمت فيها جاياتري سبيفاك، حين أشارت إلى منظور نفسي، ولاسيما موقع المرأة في المجتمع، وهو ما وضحته سارة ملز، حين دعت إلى وجوب عدم مناقشة قضايا المرأة أو الأنثى من منطلق اختلافها التشريحي، أو البيولوجي، أو محاولة سجنها في مفهوم الجسد، انطلاقاً من أن معظم الثقافات نظرت إلى المرأة على أنها تقع في المرتبة الأدنى، بكل ما تنطوي عليه المرأة من فكر ومشاعر وعواطف وقدرات عقلية، فالأنثى ما هي إلا تمثيل للجسد الذي يناقض العقل، ومن هنا، فإن موقع المرأة في معظم تلك الثقافات، لم يرق إلى ما يمكن أن ننعته بأنه وجهة نظر معرفية، تنتمي إلى قيم العالم المتقدم أو المتمدن، كما يمكن أن نضيف أيضاً تقييما منهجياً ومعرفياً، وإن طرأت بعض التبدلات في المجتمعات الغربية، بحيث أصبح البحث في هذا النوع من الكتابة متاحا، بل إن تمثيل المرأة بدأ يتقدم بعض الشيء، في حين أن بعض المجتمعات ما زالت ترتهن إلى ما يمكن أن ننعته بتراتبية، أو هرم على قمته العقل، وفي قاعه الجسد، أو يتقدم الأول على الثاني؛ أي بمعنى آخر، الذكر ينتمي إلى مجال العقل، والمرأة إلى مجال الجسد.
وفي الثقافات القديمة، ينبغي للجسد أن يتبع العقل، كون المرأة أقرب إلى الخطيئة، وهكذا، فإن المرأة تندرج تحت ما نعتته سبيفاك بنموذج التابع، كون المرأة «الأنثى» لا تمتلك مواصفات تؤهلها لأن تكون في وضع متقدم، وهكذا فإنها تتساوى مع كافة الخطابات التي تنتمي إلى مصطلح أو مفهوم «المجموعات»، وهذا يشمل كافة المجاميع التي تتعرض أو تعرضت إلى ممارسات من الهيمنة، وهذا يشمل السكان الأصليين والملونين والطبقات الدنيا، واللاجئين والمهجرين، بما في ذلك مجاميع الهوامش والأطراف، ولكن ثمة إشارة تأتي عليها سارة ملز حيث ترى أن الكتابة النسوية الساعية إلى تقويض القوة والسلطة والهيمنة – من وجهة نظر المرأة- لا يمكن أن تقتصر على ثيمات معينة، أو أن تحدد في مستويات، بحيث لا تكاد تخرج عن الطبقة والجنس والعرق، بل يجب أن تشمل أيضاً وضع المرأة في الحياة اليومية، أو الاعتيادية، وهذا يشمل العناية بالأطفال، ودورها الأمومي، والأعمال المنزلية – على سبيل المثال لا الحصر- على اعتبار أن هذا المنظور يقترب من كون هذه القضايا أموراً سياسية، لا بوصفها قضايا تتصل بالهم الشخصي، أو الاجتماعي المحدود فقط، وهذا ربما يتمثل ما يمكن أن نحيله إلى منطق السيطرة والتحكم، وهنا يمكن أن نقترب من تمثيلات وخطابات، ترى المرأة كائنا مضطربا، أو يعاني من اختلال نفسي عميق، وهذا نتج عن تعرض المرأة لممارسات ضاغطة، ولعل أهمها النظر إليها من منظور الجسد فقط، مع تغييب مفهوم العقل، أو الروح.
لا شك في أن معظم الكتابات السردية تنتهج هذا المسلك من حيث الإشارات التي يمكن أن نرى من خلالها شخوص فرجينيا وولف، أو إميلي برونتي، أو حتى كتابات أخرى معاصرة، ومنها عربية، تتمحور حول هذا النهج، فالاضطراب العصبي صيغة منتشرة في الكتابة النسوية، بل إن عناوين الأعمال تحيل إلى تموضع الجسد، ومرادفاته في سلسلة كبيرة من الأعمال التي خطت بأقلام نسوية، وهذا ما يعني أن ثمة لعنة، تطغى على الكتابة النسوية التي ترغب بمحض إرادتها الاستجابة لخطة مجتمعية، تتخذ من صيغة الجسد تعبيرا واختزالا لوجود المرأة التي تستجيب – بلا وعي مطلق- إلى هذا الفخ اللغوي والاجتماعي، بحيث تتمحور حول هذه الثيمة في الكثير من كتابتها، وبهذا فإن ثمة إقصاء ذاتيا غير مدرك، تقوم به الكتابة النسوية، وتحديداً حين تقوم بالانفكاك من دورها العام، وتنحاز إلى الخاص، فالكتابة النسوية، ينبغي لها ألا تقتصر على ما سعت الكتابة الذكورية إلى اختزاله، بحيث تشكل الكتابة النسوية مجالا للرد، وبهذا فإن بعض الممارسات الخطابية تقترب من كتابة محدودة الأفق، ولا تكاد تعبر عن منظور عام أو كلي في ما يتعلق بتوصيف المرأة باعتبارها مكوناً ثقافياً عضوياً في المجتمع، ولعل هذا يقودنا إلى أفق الجمهور، وبالتحديد حين نضع نصب أعيننا الجمهور المستهدف من هذه الكتابة، فهل تكتب المرأة لجمهور نسوي بامتياز؟ أم أنها تكتب خطابا تفكيكياً موجها بشكل خاص إلى جمهور ذكوري، أو لخطابات ذكورية؟ أم تكتب للجمهور بشكل عام « القارئ المطلق» كي تعبر عن إشكاليات مجتمعية، وإنسانية؟
لا شك في أن أي تخصيص في الرؤية، والتمحور حول قطاعات تختص بالمجاميع التي تتعرض للتنميط، والإقصاء، التركيز على قضايا تبدو هامشية، يبدو من الأخطاء المعرفية، ومع ذلك فلا يمكن لنا بأي شكل من الأشكال مصادرة حق هذه المجتمعات بالكتابة من الاقتصاص الخطابي، غير أن هذا ربما يمضي إلى ما يمكن أن نعده إسهاماً حقيقياً، فالكتابة ينبغي لها أن تعنى بجذور المشكلات التي أفضت إلى هذه التراتبية، وما استعادة أقوال الخطابات الأخرى التي تقتصر على الجسد، أو التنميط ما هو إلا شكل من أشكال الاستجابة للمنطق عينه الذي تبنته تلك الخطابات المهيمنة، إذ ينبغي لكتابة المجموعات، أو الأقليات، وحتى النساء، أن تخرج من سجونها اللغوية، والتاريخية لتبحث عن حضورها في الشأن العام، وأن تتخلص من العلامات، أو البصمة «الوشوم» التي حاولت أن تمحوها، فالكتابة النسوية على سبيل المثال، وكما الممارسة لا تقتصر على مناقشة سجن الجسد، وتحقيق بعض سمات الحرية المنشودة، إنما تكمن قوة الكتابة النسوية حين تشتبك مع واقعها بوصفها كائناً إنسانيا واجتماعياً، بحيث تمتلك قدرة على تناسي أو عدم الاعتراف باختلافها، فأي كتابة تنطلق من معنى الاختلاف، فإنها تعني أنها تقر بأنها مختلفة، وبناء عليه فإنها تؤكد الخطابات المتعالية، وبشكل أدق حين تسعى إلى أن تبقى متمحورة في القضايا والأساليب، أو حول ما يتعلق بهذا المنظور الضيق والمحدود الأفق، لا يمكن للكتابة النسوية أن تكون فاعلة ما لم تنظر إلى العالم من خلال عين الإنسان، وأن تسعى الاشتباك بالقضايا المطلقة بوصفها كائنا مكتملاً لا مختلفاً، فالحقوق التي تسعى المرأة إلى امتلاكها تبدو ضئيلة، ولعلها هامشية في عالم محكوم بالكلية إلى منطق ينظر للإنسان على أنه سلعة، بحيث تمارس القوى الاقتصادية والحكومات هيمنتها على الجميع، بحيث لا تكاد تفرق بين كائن وآخر، إنما فقط هناك خطاب الهيمنة، وتحقيق المصالح، ولكن للأقوى فقط، وهو في معظم الأحيان نموذج مؤسساتي، بما في ذلك مؤسسة المجتمع التي يحكمها عقل جمعي رجعي، يقود الكل.

(القدس العربي)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى