المبدعون وحملة الأقلام لا يبحثون عن الحقيقة

فيصل عبد الحسن

يبدأ الكاتب المغربي أحمد بوزفور كتابه الجديد “النظر إلى بحيرة القلب” بعتبة تروي حقيقة يأسه المرير، الذي حاول تسجيله. حقيقة جاء بها من شاعر هندي لم يسمه، وأظنه ليس بعيداً عن الكاتب ذاته إذ يقول “أجلس بخشوع عند بحيرة قلبي، وأتأمل خيالك فيها”. وهذا يلخّص بعض ما جاءت به محاور الكتاب.

نكتشف بعد كل محور من كتاب التأملات الأدبية هذا أنَّ كل ذلك الاعتكاف على النفس، والنظر إلى الحياة من ثقب الذات الضيّق يعود إلى صَّدمات الوَاقع العنيف، وفَنّ كتابة القصة القصيرة. يقول بوزفور عن ذلك “القصة التي سكنت هذه البحيرة منذ تكونت -يقصد بحيرة قلبه-… كجنية ربطتني إليها بخيط حريري مُرْخى”.

 

كتابة الصمت

تناول الكاتب في كتابه، الصادر عن منشورات ديهيا 2017 بالمغرب، تأملاته في الكثير من قضايا القصة القصيرة. كتبها في شكل خواطر، وطرحها للمناقشة. قارن فيها بين أبطال قصص الأمس البعيد الذين يصلون إلى تحقيق أهدافهم كعنترة العبسي يتزوج عبلة، وعوليس يصل إلى إيثاكا، وابن القارح يدخل الجنة، وجلجامش يقتل خمبابا. وأبطال اليوم، شخصيات عادية، مهمشون، ومحبطون ويائسون، لا ينالون شيئاً في نهاية القصص سوى الخيبة والخذلان. والكاتب لا يفعل إلا لعباً جميلاً بالكلمات، ويختار جماليّات الكتابة في لعب حر لا قواعد له، ولا نماذج ولا أساتذة.

وفي خاطرة من مؤلفه كتب بوزفور عن أشكال التخريب في القصة المغربية، متهماً القصاصين أنفسهم بتخريب هذا الفن الأدبي الراقي. فهو يرى أنَّ الوسط الثقافي يهتم بالكاتب أكثر من اهتمامه بما يكتب، فيقيم له الأماسي والاحتفالات، ويكرمه و يحاوره، ويلتقط الصور معه من دون أنْ يقرأ حتى صفحة واحدة من إبداعه أو كتاباته.

ولا يزيد اهتمام الوسط به في مبيعات كتبه. واعتبر الكاتب كل هذا ليس سوى مجاملات فارغة، ورأى أنَّ ذلك سيطيح بالنقد الحقيقي، ويجعل المجاملات للكاتب تشمل مجاملات النقاد لما يكتب، مشيرا إلى ضرورة جعل القصة أكثر من الكلام الشفوي، الذي يدور بين الناس في الحياة اليومية. كما أكد على ضرورة جعل كتابة القصة تليق باعتكاف الكاتب في وحدة مطلقة، ليكتب قصته بجعلها قصة، لما نفكر فيه أو نحلم به أو نتخيله. فهي دعوة منه إلى “كتابة الصمت في القصة أكثر من كتابة الكلام”.

وفي خواطر أخرى كتب بوزفور عن التجريب في القصة، مستلهماً ما كتبه من قصص في الثمانينات من القرن الماضي، وجعلها في فقرات بعناوين مختلفة مثل: “كهمومها، التجريب، حوار مع الذات، التجريب تنويع للذات”. وزع خلالها الصوت الواحد في القصة، والمنظور الواحد للسرد، فقسم الكتلة السردية إلى عدة أقسام، وعلى عدة أصوات. وفي قسم آخر من التجريب عنونه “التجريب تقشير للذات”، تناول الكاتب تجريب العامِّيّةِ في نصّه القصصيّ.

يرى بوزفور اللغة من المناطق الخطرة والقاتلة للنَّصّ القصصيّ، فاللغة في رأيه “المعمل السِّحريّ الذي ينتج النَّصّ”. ومن العقبات الأخرى المعرفة، والمعرفة في القصة لدى الكاتب هي زناد القدح، الذي يمهد بشرارة الابتكار. وتلي ذلك عقبة “البناء”، معتبراً أنَّ القصة أي قصة من دون شكل جماليّ، هي مجرد حكاية. وحول هذا البناء الجماليّ المفترض للقصة تتقرر موهبة القاص من عدمها.

هناك فصل آخر أفرده الكاتب لنصّ الكاتبة الأميركية أناييس نين عنوانه “الكمان المُعَلَّق” روت فيه عن الموهبة المقموعة من قبل الأهل والمجتمع، وعن حكاية طفل موهوب بالعزف على الكمان. أمه كالكثير من الأمهات لا تشجعه على تطوير موهبته. فيُسمّر كمانه إلى الحائط، ولم يلمسه أحد منذ اليوم الذي قالت فيه أمه… “أنا مسرورة لأنَّك لم تنل الجائزة. ما كان لنا يوماً موسيقيون في عائلتنا”. بعبارة واحدة حطمت أمه حبه الأول. فعلق كمانه على الجدار، فتراخت الأوتار شيئاً فشيئاً، وتدلّت ميّتة. وحين أدرك أنَّه ضاع دون أنْ يدري. صار جوّاباً يبحث دون استقرار، منقّباً في آثار روحه، علّه يجد منبع الموسيقى التي قتلتها أمُّه.

يروي الكاتب هذا النَّصّ ليحكي لنا عن قصته “المعراج” التي لم يتمها منذ أربعين عاماً . فالمعراج بالنسبة إليه هي القصة المستحيلة، كما أنَّ لكل غاو امرأة مستحيلة لا يستطيع أنْ ينال محبتها.

 

أيها الإنسان عمَّ تبحث؟

وأفرد الكاتب محوراً لقراءاته القصصية، فتناول بالتحليل قاصه الأثير، وأستاذه القاص المغربي محمد زفزاف (1945 ــ 2001). وكذلك تناول طروحات كُتَّاب أجانب في ما كتبوه من قصص قصيرة، كمسألة القانون في رواية فرانز كافكا “القضية”. والبناء في قصة “موضوعة الخائن والبطل” لخورخي بورخيس، والتقنيات القصصية في قصة “العربة” للويجي برانديللو.

والمحور الأخير من الكتاب خصَّصه لحوارات أجريت معه في مراحل مختلفة. وربما ما قاله في حواره الأخير مع القاص المغربي سعيد منتسب لخَّص موضوع كتابه. ويتلخَّص في سؤال عما يبحث في كتابة القصة القصيرة؟ فيجيب “الحقيقة، وهم ميتافيزيقي قديم، لم يعد منتجاً في العصور الحديثة. الشاعر والفنان والفيلسوف والقاص لا يبحثون عن الحقيقة، القاص على الأقل، أنا لا أبحث عن الحقيقة، عَمَّ أبحث إذن؟ يا أيها الإنسان عَمَّ تبحث؟ يقول شوقي في قصيدة للأطفال، لا أدري، ربما كنت أبحث عن الجمال. قد يكون الجمال هو الحقيقة الوحيدة في هذا العالم، التي نبحث عنها من وراء كتاباتنا”.

يُذكّر الكتاب بمثل شعبي يقول “حلبوا كُلّ النِعاج، ولم يبقَ إلا التَّيس”. وهذا المثل، كما يقول أحمد بوزفور، ينطبق على نكوص الكاتب العربي إلى بحيرة قلبه، وبالعوده إلى الذات يُطرح السؤال، هل استنفد الواقع العربي كل ما يُدهش، ويعول عليه في الإبداع، ليعود الكتَّاب العرب إلى حلب أنفسهم؟

(العرب)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى