الذات بين الواقع والمُتخيل في «وصايا العمة مينا» لمجد عدنان

عثمان بوطسان

مجد عدنان الهياجنة، كاتبة وإعلامية أردنية وفلسطينية. تعتبر من الكاتبات البارزات في الساحة الأدبية السعودية، خاصة بعد صدور كتابها « وصايا العمة مينا ( قبل أن تتزوجي شرقيا)»، وهو الجزء الأول من مشروع كتابي، تحاول الكاتبة من خلاله الدخول إلى عوالم المرأة السيكولوجية والاجتماعية، في محاولة منها لفهم أغوارها وتقلباتها النفسية. إنه كتاب يغوص في أعماق الجسد الأنثوي بأسلوب شعري يجعل القارئ وكأنه أمام نص شعري، حيث يتحول السر إلى عنصر ثانوي. فجمالية اللغة المستعملة وطريقة الوصف توحي بأن الكاتبة لها من الإحساس الشعري ما لا يمكن وصفه في بضعة أسطر.
إن قراءة كتاب «وصايا العمة مينا»، تجعلنا نحس بأن مجد عدنان تميل إلى الشعر في الكتابة، محاولة بذلك الغوص في معالمها وأسرارها المخفية، في علاقتها مع الشرقي.
وهكذا فإن الكتاب يصنف ضمن السرديات، وهو على وجه التقريب يدخل ضمن المونولوج الداخلي، لأن الكاتبة في حالة تواصل مع ذاتها من خلال رؤية سردية يتداخل فيها المتخيل والمستوحى من الواقع. لا شك أن الكتاب يعكس بعض الحقائق المقتبسة من الواقع المعاش، حيث يتسع السرد ليشمل الأبعاد الاجتماعية والنفسية، ومن ثمة تتداخل فيه كل أنماط السرد الممكنة. فهذا الكتاب لا يقبل تصنيفا معينا، لأن شكله المختصر ولغته الشعرية تجعل منه كتابا حديثا وفق المنظور الأدبي الحديث، الذي يتميز بتداخل الأشكال الأدبية. فالواقع الذي عاشته الكاتبة كالوشم لا يفارق ذاكرتها المغرقة.
« الرابع عشر من شهر تموز، تاريخ لا يغادر دواليب ذاكرتي، لا يخرج من جوارير قلبي، رغم أني أغلقت الستارة منذ أزل وقبلت قدري بمنتهى الرضى، ولكن لبعض التواريخ كبرياء يرفض أن ينمحي بجرة نصيب جاء على عجلٍ، وعلى غفلة من وقتٍ، واحتمال». إن الذاكرة بهذا المعنى، هي المنطلق ونقطة تقاطع كل الأحداث والعوالم السردية الممكنة. فالذاكرة ليست فقط منبع الكتابة ووحيها، وإنما الفضاء الذي من خلاله تحاول الكاتبة إعادة رسم التواريخ واللحظات التي ما تزال ترهق ذاكرتها. بمعنى آخر، فالكتابة حرب ضد النسيان، ومحاولة للفرار من الجرح الوجدي الذي يطارد عامة الكتاب. لا تكتب عدنان مجد من أجل سبب فني وأدبي، وإنما من أجل الحاجة الوجودية للاعتراف والتخلص من بعض الذكريات، التي دفعت بها إلى الكتابة كسبيل للنجاة. فالكتاب لا يتطرق فقط لشخصية الكاتبة، التي تنقسم إلى نصف واقعي وآخر متخيل، وإنما يحاول الكشف عن معالم المرأة بصفة عامة، وحالتها السيكولوجية خلال بعض لحظات الانعزال والتأمل. ولهذا فإن الحوار الداخلي، هو حوار من أجل فهم الذات التي من خلالها يتحدد وجود الآخر.
وعليه فإن كتاب «وصايا العمة مينا» يتميز أساسا ببعده السيرذاتي، حيث تكشف فيه المؤلفة عن صناعة أدبية مقحمة فيها عناصر من تجربتها الشخصية وحياتها الخاصة، والبعد التاريخي والواقعي الذي يظهر من خلال وجود إشارات زمنية ومكانية واقعية في النص. وترتبط هذه الإشارات أساسا بسيرة المؤلفة، التي تخضع لتأثير مباشر أو غير مباشر للبعد السردي السيرذاتي المرتبط بشكل وثيق بالبعد النفسي. فهذا النص هو بالأساس رسم لحالة نفسية في حالة من الفوضى واللاثبات؛ ذلك لأن الغرض الأساس من السرد، هو محاولة جمع كل الأشلاء التي تتخذ طابع الذكريات، في محاولتها الكشف عن حقيقة المرأة في مجتمع يصنفها عادة في خانة الظل: «لبعض الذكريات صوت موجعٌ، يسحبني معه بجرة قلمٍ إلى دفاتري وورقي، يسحبني للمنصة، وكأنه يجبرني على بوح ما لا يقال، أو كأنه يحاول أن يستدرجني إلى محاكمة ما لا أعرف أين ستنتهي بي». هذا المقطع، يُظهر بكل وضوح سبب الكتابة والهدف منها. فكما قلنا، الغرض من الكتابة هو البوح والاعتراف وقول أشياء تعجز المرأة عن قولها في محيطها أو واقعها المعاش.
الكتابة بهذا المعنى، هي وسيلة للتحرر والكلام بدون قيدٍ ولا شرط. أن تكتب، يعني أن تقول ما يجول في خاطرك بدون خوف، هذا ما تفعله المؤلفة ولكن بطريقة أدبية جميلة، إذ من خلالها تحاول أن توحي لنا بأنها لا تدري حقا ما الذي تحاول فعله. والحقيقة أن كل خطوة، أو حرف يُكتب مخطط له من قبل. فالهدف الأساس من هذا الكتاب، هو تحرير المرأة ومنحها حقها في الكلام، ولا سبيل للكلام والبوح والانتصار لغريزة الذات إلا بفضل الكتابة. هذا الطرح، تؤكده الكاتبة بقولها: «أحب أن أرى نفسي معكوسة على الورق.. ولكن في الوقت نفسه هدفي من الكتابة، أن أعكس كل حواءٍ على ورقي ولكن بأبجديتي أنا».
إن السرد في كتاب «وصايا العمة مينا»، يرتكز أساسا على الحالة النفسية لأنا المؤلفة، فعادة ما تحمل الكلمات والأوصاف المستعملة والأحداث المتخيلة انفعالات واضطرابات المؤلفة، التي يمكن الكشف عنها عن طريق التحليل النفسي الأدبي. فكل الإشارات حاضرة، والاستعمال المفرط لضمير الأنا في النص، يجعل من هذه الفرضية متقاربة مع الطرح العام للكتاب. فهذا النص، هو مرآة ذات الكاتبة وانعكاسها، إن لم نقل إنها الصيغة التي تمرر من خلالها كل ما تطمح إليه من أحاسيس ومكبوتات وأفكار جريئة، التي لا يمكن لها قولها أو الإفصاح عنها بطريقة مباشرة. لهذا فالنص الأدبي، أشبه بكنيسة الاعترافات، فضاء حيث كل شيء ممكن، حيث حرية الكلام لا حدود لها، حيث اللغة الشعرية تُحول الواقع إلى خيال مُتخيل.
إن خلق قصة مينا، ليس سوى إطار سردي تحاول المؤلفة من خلاله الهرب وتشتيت انتباه المتلقي. ففي بداية الكتاب يحس أنه يقرأ سيرة ذاتية، لكن سرعان ما يتحول السرد من الأنا إلى سرد وقائع شخصية أخرى. لكن الحقيقة، أن مينا هي نفسها المؤلفة. فهذه الشخصية قناع تنتقد من خلاله المؤلفة الرجال وتفضح بعض مظاهر المجتمع، وتعترف بكل أسرارها. مينا، هي بالأساس شخصية الكاتبة وانعكاسها. ومن المعروف أن الأدب السيرذاتي يتميز بهذا الطابع، حيث يحاول الكاتب بصفة عامة خلق شخصية تقوم بكل الأدوار، حتى يعتقد القارئ أن هذه الشخصيات لا علاقة لها بالمؤلف، وأنها ربما مقتبسة من الواقع. لكن الحقيقية، أن هذه الشخصيات هي الأقنعة التي يحاول من خلالها الكاتب عدم كشف حقيقة الذات وخلق مساحات أوسع للتأويل والتحليل الأدبي.
إن عدنان مجد، تعتمد الطريقة نفسها، ما يجعل هذا النص، شكلا أدبيا مفتوحا، إذا ما استعملنا مصطلح السيميائي والكاتب أمبرتو إيكو. مفتوحا بمعنى أنه لا يقبل قراءة واحدة، وإنما تتعدد القراءات بتعدد مستويات المتلقي ورصيده الموسوعاتي. فالمطلع على الأدب، سيجد في كتاب عدنان مجد، مساحات فارغة تستدعي الطرح والتساؤل، أفكار لا تقبل الاستهلاك بقدر ما تقبل التفكير النقدي، لأن النص مرتبط أساسا بحالة وجودية لمرأة تتحدث بلسان باقي النساء في المجتمعات الشرقية:
«كل ما نحاوله نحن النساء مجرد أن نستر خيباتنا العاطفية والوطنية والفكرية بارتداء قناع اللامبالاة والصلابة، فإذا رأيت امرأة صلبة جدا ودرجة اللامبالاة عندها مرتفعة، تأكدي أنها تلقت طعنات أكثر من احتمالها. لقد بعثروا أوطاننا وكياناتنا فانشغلنا بلملمتها ولملمة شظايانا المتناثرة».
في هذا المقطع، تكشف العمة مينا، عن جزء من حياة المرأة النفسية ومعاناتها. تكشف أشياء ربما لا يعرفها البعض، بل يمكن القول إنها تتطرق إلى أشياء أعمق من ذلك بكثير، خاصة استعمالها لمصطلح (أوطاننا)، هنا يبدو أنها تتطرق إلى أوضاع العالم العربي المتأزمة. فكيف لا تكون وضعية المرأة في حالة من الاضطراب، والمجتمعات العربية شبه ممزقة ومتناثرة. هنا يتجلى البعد الاجتماعي للنص، فمجد عدنان تربط وضعية المرأة بسياق معين، أي أنها تتطرق لمعاناة المرأة في إطارها الاجتماعي والسياسي والنفسي. لذا، فكتاب «وصايا العمة مينا» في مجمله مقتبس من الواقع المعاش، سواء الذي عاشته وتعيشه المؤلفة، أو الذي يعيشه العالم العربي. وهنا تضيف مجد: «نصف الكتاب مقتبس من الواقع، ونصفه الآخر من الخيال المشابه للواقع… أما الدافع من وراءه هو أن أجعل منه أيقونة لكل شرقية؛ لتجد في مينا مكانا يشبهها وعالما يعكس كل ما يعتريها. فالوصايا جاءت بأسلوب خفيف الظل، لم استخدمها من جانب من يرغب في وضع قيود وعلى القارئ تطبيقها، استخدمتها من باب الحرص. فالكتابة يمكنها أن تكون مرآة حقيقية تعكس ما يعتري المرأة، وما يمور في دواخلها. بالتأكيد هي وسيلة تستطيع المرأة من خلالها أن تعبر وتفصح عن مجالات كثيرة هي بحاجه ماسة للإفصاح عنها».
وخلاصة القول، إن هذا المقال وحده ليس كافيا للتطرق بعمق للمُؤَلف الذي بين أيدينا، ولذلك فهو محاولة فقط لتمرير بعض الأفكار ودعوة القارئ إلى النبش في أوراقه، ولكن يجب التأكيد على مسألة أن الكاتبة مجد وجدت لنفسها مساحة كافية للكتابة، بل إنها جعلت من كتابها نصا يُصنف ضمن أدب السيرذاتية الحديثة، خصوصا أن حضور الأنا في النص كسر أحادية الصوت السردي الذي تتسم به الرواية التقليدية ويجذر النص الروائي في الحداثة، إذ تقوم الرواية الحديثة كما يشير ذلك محمد القاضي على «كسر الخطوط المستقيمة وتقويض جبروت الراوي الغائب والاستعاضة عنها بهشاشة المتكلم. ولقد عد كتاب «وصايا العمة مينا» بضمير المتكلم مما يجعله أساسا وجها من وجوه حداثة النص العربي. علاوة على ذلك، فقد ساهم السرد بضمير المتكلم والمخاطب في انفتاح النص على عوالم الذات والآخر في آنٍ، خاصة في تفاصيلهما وحياتهما وفي هواجسهما الخفية العميقة الأغوار. لذا، فإن هذا الكتاب فرصة للتأمل والتساؤل ومحاولة فهم ماهية الذات في وجودها وغيابها وتقاطعها مع العالم الخارجي الذي يشكل سياقها العام وبيئتها الاجتماعية والنفسية.

(القدس العربي)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى