بلند الحيدري (1926ـ 1996): في مقهى الوقت الضائع «واق الواق»

منصف الوهايبي

في مثل هذه الأيّام من صيف 1996 رحل بلند الحيدري، شاعر عراقي مـــــن أصـــــول كرديّة، ولد في العام ذاته (1926) الذي ولد فيه بـــدر شاكر السيّاب وعبد الوهّاب البيّاتي؛ ولكن بدون أن يظفر بما ظفرا به هما ونازك الملائكة، من عناية الشعراء والدّارسين، بل كاد ذكره ينقطع، ويشرد من ذاكرة الناس، على الرغم من أنّه سبق مواطنيه الثلاثة، في كتابة «الشعر الحرّ» أو «قصيدة التفعيلة».
كتب عيسى مخلوف في «بلند الحيدري: اغتراب الورد» (منتدى أصيلة 1997، منشورات جمعيّة المحيط الثقافيّة)؛ أنّ منظّري الشعر العربي الحديث أهملوا بلند «فاعتبروه هامشا للريادة لا متنا من متونها، على الرغم من أنّه «كان أحد الرواد الأوائل المجدّدين»؛ وكان متميّزا في مجاميعه الأولى وما أعقبها مثل «خفقة الطين» 1946 «أغاني المدينة الميّتة» 1951 و«خطوات في الغربة» 1965، فـ»رحلة الحروف الصفر» 1968، فـ»حوار عبر الأبعاد الثلاثة» 1972 حيث تجلّت أدواته الشعريّة ـ كما كتب عيسى ـ في اعتماد النفس الملحمي والنبرة المسرحيّة التي تسِمُ مفرداته المتقطّعة صوتيّا؛ وما يعلق بها من إيماء دالّ وصور رامزة ونسق بنائيّ دراميّ يكاد يكون مقصورا عليه في تلك الحقبة؛ بما يُضيّق المسافة بين الكتابة والحياة ذاتها، ويجعل القصيدة تشِي بزفرات النفس المجرّبة، وتفتح لحيّز المكان الضيّق المحدود، مجالا أرحب يتمثّل الحياة في سعتها وحركتها، في إمكاناتها واحتمالاتها. ومع ذلك فإنّ هذه التجربة لم تُنصف فحسب، وإنّما «ضاعت في سجال كان قوامه التراتبيّة الزمنيّة التي لم تُؤخذ هي الأخرى في الاعتبار؛ ما حرم بلند التصنيف الذي يستحقّه حتى بالمعنى الزمني». بتعبير صديقنا عيسى.
قرأت بلند منذ أواخر الستّينيات، وكنّا نتغنّى بقصائده في تروتسكي وغيفارا خاصّة. والتقيته مرّتين، أولاهما في المغرب والثانية قبيل رحيله بعامين في جرش في الأردن. كان محدّثا بارعا يمتلك مقدرة على التعبير وقوّة وصف وتمثيل، لا تخفيان؛ «يتدفّق» ويكاد لا يسكت، ولا حديث له إلاّ عن نفسه؛ ولكن دون أن ينتقّص من الآخرين أو ينال منهم ويُزري بهم، بل كان فيه لطف وناحية إنسانيّة ملحوظة. كان ذلك في عمّان عام 1994، وكان لا يَنِي يردّد على مسامعنا كيف حُكم عليه بالإعدام، وأنّه نجا بأعجوبة. وكان عبد الوهّاب البيّاتي يُسرّ لنا بأنّ ما يزعمه بلند «نفْج» (من نفَج أي افتخر بما ليس عنده) ولا سند له من الواقع؛ وإن كان قد اعترف في حوار له بأنّ بلند هو «الشاعر المبدع في أساليبه الجديدة التي حقّقها، وفي طريقته التي لا يقف فيها معه إلاّ شعراء قلائل من العراق». على أنّ ما يعنينا في هذه الفسحة، أنّ بلند يكاد يكون اليوم شاعرا منسيّا، وليس بميسورنا، في مقال كهذا أن نعيد ترتيب قراءة منظّري الشعر العربي الحديث؛ وهي التي ترسف في قيود من جمل ومقاطع شعريّة متفرّقة ونتف مبعثرة، وقلـّما اتـّسعت لقصيدة بأكملها أو لمعظم مكوّناتها؛ ممّا يحول دون إدراك التّجربة الجماليّة في كلّيتها عند الشعراء «المؤسّسين» وبلند أسبقهم. وهي صعوبة مردّها إلى غياب ما يسمّى بـ«التصفـّح الزّمنيّ» المخصوص بالقراءة في جلّ بحوثنا، حيث يمكن أن نتميّز الأزمنة الثـّلاثة التي يقول بها الآخذون بـ«جماليّة التلقّي»، وفي ضوئها يمكن أن نستدلّ بها على مدارج القراءة: اكتشاف النصّ أي إدراكه، فاستعادته من حيث هو كليّة معطاة، فإعادته إلى أفق كتابته، وآفاق القراءات المتعاقبة عليه.
هجر بلند بيت العائلة يافعا، وعاش تجربة وجوديّة، وكوّن «جماعة الوقت الضائع» وافتتح مقهى «واق الواق»، وكان السيّاب أحد الذين يتردّدون عليه. وفي هذه الفترة من عام 1946 أصدر بلند ديوانه الأوّل «خفقة الطين» وهو في العشرين؛ وضمّ قصائد تراوح بين شعريّة البيت و إعادة توزيعه، بما يجعلها أمسّ بشعريّة التفعيلة، منها بالشطرين، في ما يسمّيه عبده وازن «حداثة ما قبل الحداثة»، بل إنّ خياراته في التنويع التفعيلي ظلّت، كما يقول صبحي حديدي «قائمة على هندسة إيقاعيّة عالية صلدة ومحكمة»، الأمر الذي يجعل موقفه «محافظا متحفّظا إزاء تجارب الإبدال الوزني لبحور محدّدة مثل المديد والمتدارك». وإن كان صبحي يتفرّد من بين دارسي بلند بإنّ نصّه، على محافظته هذه، نهض بدور مباشر أو غير مباشر، في تشجيع ولادات قصيدة النثر المبكّرة، ونماذجها اللاحقة وتحصينها. ورأي صبحي يحتاج إلى كثير من التفصيل والتدقيق، وقد أعود إليه في مقال مقبل. ذلك أنّ بلند يقف من قصيدة النثر موقفا مناهضا، وهو القائل إنّ الشعر «يقوم على المضمون الشعري والإيقاع الشعري. فالمخيّلة الشعريّة كانت موجودة في النثر العربي منذ القديم، لكنّها لم تُسمّ شعرا لأنّ الشعر لا يقوم إلاّ على جانبين، خاصّة أنّ اللغة العربيّة فيها من الإمكانات الموسيقيّة ما لا يتوفّر للكثير من لغات العالم. فلماذا أهجر هذه الإمكانيّة، إلاّ إذا حاولت أن أعترف بضعف قدرتي على استخدام الوزن والإيقاع الموسيقي. فقصيدة النثر تحقّق الجانب الأوّل من الشعر، وهو المخيّلة الشعريّة؛ لكنّها تفتقد الجانب الثاني الذي يعزّز من العمل الشعري. والحقيقة إلى اليوم تقول بأنّ الغناء أجمل من الكلام العادي، والرقص أجمل من المشي». ومع ذلك، نسوّغ رأي صبحي، لأنّ المقصود هو أنّ قصيدة النثر تظلّ سليلة شعر التفعيلة، من حيث هو وحده محصّلة التجريب المتواصل في الشكل الشعري بعبارة سلمى الخضراء الجيوسي، أي أنّ الحيدري والسيّاب والبيّاتي من أبرز الذين مهّدوا الأرض لمن اختاروا التعبير الشعري بالنثر.
فإذا كانت القصيدة خطابا تؤدّيه «ذات» ما ، وجاز القول إنّها عند الشاعر «مغامرة لغويّة»، فلا مناص من اعتبارها مغامرة الذّات المنشئة أيضا، إذ يصعب بدون ذلك، أن نفسّر كيف تكتسب قصيدة بلند تفرّدها، وتبني إيقاعها الخاصّ. غير أنّ آصرة القربى بين «الذّات» وخطابها، تقتضي التّمييز بين «الذّات» و«شخصيّة الشّاعر» الوجودي في فترة، و«اليسار» في فترة أخرى، بدون أن يستتبع ذلك الفصل بينهما كلّ الفصل. والبحث في معنى النصّ أو موضوعه أو دلالاته أو ريادته، مسوق في جوانب منه، إلى الاستئناس بسيرة الشّاعر والوقوف على مختلف التأثّرات التي قد تكون ألّمت به، فقد يكون ذلك من مستلزمات فهم نصّه وتقبّله، إذ لا مفرّ من وجود علاقة زمنيّة مكانيّة قد تكون محدودة بين الشّاعر وقصيدته؛ على إقرارنا بأنّها ليست مثبتة قطعا ولا هي قصديّة قطعا.
والكلمات في القصيدة «تعبيرات»، وهذا يعني من ضمن ما يعني أن المتقبل يعبر منها إلى المعنى المقصود؛ بدون أن يسوق ذلك إلى القول إنّها شفيفة غير سميكة. فهذه الكلمات أو التّعبيرات إنّما تتمثّلها المخيّلة، وهي لا تعني ضرورة الشيء المخيّل، وتمثّلات المخيّلة ينبغي ألا تلتبس بالأشياء المخيّلة، فلعلّ المخيلة فتح أفق للموضوعيّة. وهي في ما نحن فيه، فتح أفق للكلمات من حيث هي «أشياء» مرئيّة، إذ هي التي تجسّدها أو تضفي عليها هيئة أو صورة، وتختزلها في «رسم خياليّ» يذكي الحدس مثلما يذكي الإدراك، وينضوي إلى سجلّ المرئيّ، بدون أن يبرح سجلّ المسموع.
ولعلّ ما يجدر الانتباه إليه أنّ مسألة النّسقيّة، ليست ملازمة بالضّرورة لمن ينشدون للشّعر تاريخا، أو مفهوما كلّيا وإن قسرا؛ وإنّما يمكن الإفادة منها في إعادة ترسّم ملامح قصيدة مبتورة أو مشوّهة لسبب من الأسباب؛ فالتّعامل مع القصيدة باعتبارها نسقا أو بنية هو الذي ييسّر إجراء «ترميم» القصيدة وإعادة كتابة تاريخها. والحقّ أنّنا بهذا إنّما نُنوّع على ما قاله هيغل في كلامه على نسقيّة الفلسفة إذ ينبغي تصوّرها «مثل دائرة تعود على نفسها أبدا». فإذا جاز لنا أن ننوّع على قوله هذا قلنا: «ينبغي تصوّر القصيدة على أنّها دائرة تعود على نفسها أبدا» ذلك أنّ الشّعر لا هو بالقديم ولا هو بالجديد، بل لا تاريخ له أبدا. وإنّما نستطيع أن نشير إلى بعض العلاقات انطلاقا من خصائصه السّابقة. ولعلّ الأصوب أن نستخدم، ما تعلّق الأمر بالشعر، مصطلح «شكل لولبيّ» أو «حلزونيّ»، ذلك أنّ القصيدة تتعهّد موضوعها من نصّ إلى نصّ، بما يعني أنّها تفتح ولا تغلق كما هو الشّأن في الدّائرة. واللّولب حتّى وهو يدور كالدّائرة، فإنّه يفتح على اللاّنهائيّ. وفي هذا ما يجعله يعود أدراجه وقد أضاف إليها، خاصّة كلّما تناولنا ذلك من زاوية «جماليّة التّلقّي». وقد يكون هذا الشّكل اللّولبيّ أشبه بدائرة، غير أنّها دائرة تستيقظ أو تنتشر. وما نخال «انتشار» المعنى إلاّ مظهرا لافتا في كلّ هذه النصوص «التأسيسيّة» المتفاوتة قوّة وضعفا.

(القدس العربي)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى