حفظ العمران في المصالح الشرعية الكليّة: أحكام وقواعد

ابراهيم البيومي غانم

يندرجُ مقصدُ «حفظ العمران» في المصالح الشرعية الكلية. وهذه المصالحُ تندرجُ بدورها في مهمة استخلاف الإنسان في الأرض. وأولُ مهمات الاستخلاف: العمرانُ، وهو: الحرية والعدل والرخاء والأمن، أو هو كل ما يُعمر وتُبنى به البلد أو المحلة أو الموطن، وكل ما يوفر ضرورياتِ الحياة، وحاجياتها، ويحسنها بشتى الطرق؛ بالعلمِ والفلاحة، وبالصناعةِ والتجارة، وبكثرة الناس، ووفرة الأعمال، وعموم الحرية والأمان؛ وهذا هو التمدنُ بمعناه العام، أو هو: «عمران العالم»، ومركزُه «الإنسان»، و «الاجتماع الإنساني» بتعبير ابن خلدون. وتتوزعُ مسؤولياتُ بناءِ العمران وتشييده ابتداءً، وحفظِه ودوامِه انتهاءً؛ على الأفراد والجماعات، وتتشاركُ فيه الجهود الأهلية والحكومية؛ الإلزاميةُ والتطوعيةُ. وبمقدار المشاركة في بناء العمران وحفظه؛ يتقاسم الشركاء جميعهم ثمراته وفوائدَه.
وللعمرانِ أحكامٌ وقواعد، كما أن له أصولاً وفروعاً، وله مقاصد كلية وجزئية يحفل بها أغلبُ مصادر التراث الإسلامي؛ ومنها بخاصة: علومُ التفسير والحديث والسيرة النبوية، وعلمُ الفقه وأصوله، وعلمُ الكلام وأصول الدين. ولكن مقصدَ «العمرانِ» ابتناءً وحفظاً يتجلى أكثر ما يتجلى في مصادر التراث التي تخصصت في شؤون «المجال العام»، أو «المصالح الكبرى» أو «العامة». وأهمُّ هذه المصادر على الإطلاق هي: كتبُ الآداب السياسية ونصائح الملوك، وكتبُ الأحكام السلطانية والخطط الدينية، وكتبُ السياسة الشرعية والتدابيرِ المصلحية والأمنية. وثمة كتاباتٌ أخرى تناولت الموضوعَ السياسي بشكلٍ جزئي، وبطريقةٍ عارضةٍ في سياق علوم ومعارف مختلفة مثل: التفسير، والحديث، واللغة، والفقه وأصوله، وأبواب الإمامة في علم الكلام، والتاريخ وحولياته، والتراجم والسير. وعلى رغم أهمية ما تحتويه هذه المصادر بشأن الموضوع السياسي، إلا أن اهتمامي ينصبُّ هنا على الكتابات السياسية المتخصصةِ التي تندرجُ في واحد أو أكثر من تلك الأنماط الثلاثة الرئيسية.
لا يمكن الكشفُ عن «مقصد حفظ العمران في تلك الأنماط إلا عبر تقديم قراءةٍ تحليلية ونقديةٍ فيها، بهدف الإجابة عن سؤال مركزي مركب هو: هل خدمت الكتابةُ في الأنماط الثلاثة مقصد «حفظ العمران»؟ وما مآلات كلِّ نمط منها في ضوء الممارسات التاريخية؟ وما السياقاتُ التي ارتبط فيها «فقه السياسة الشرعية» تحديداً بالمقاصد العامة للشريعة، ولماذا هيمن هذا الفقهُ على النمطين الآخرين في الكتابة السياسية منذ تداعت وحدة السلطة في نظام الخلافة مع صعود البويهيين في اواسط القرن الرابع الهجري؟
من جهةِ التاريخ المعرفي؛ تشيرُ المصادرُ إلى أن الكتابة السياسية المتخصصة في التراث الإسلامي أخذت في الظهور ابتداءً من القرن الثاني بمؤلفات النمط الأول في: «الآدابِ السلطانية والنصائح الملوكية». وموضوعها الرئيسي هو: تقديم النصائح الأخلاقية والحكم المأثورة بأسلوب وعظي يخاطب وجدان السلطان أساساً. ثم زادت هذه الكتابةُ وتنوعت باطراد بدءاً من القرن الرابع الهجري. وشهد القرنُ الذي تلاه ظهورَ النمط الثاني وهو: «الأحكامُ السلطانية»، وموضوعها الرئيسي يتركز على أصول الحكم وشرعية السلطة وما يتبعها من مؤسسات لإدارة شؤون الدولة. واستمرت الكتابةُ في النمطين الأولين، وازدهرت في القرنين السابع والثامن، وفي ذينك القرنين ظهرَ النمطُ الثالث وهو: «السياسةُ الشرعية». وموضوعه الرئيسي هو بمفردات معاصرة: تدبير المصالح العامة، وضبط المجال العام بالأمن والقضاء في الظروف الاستثنائية بما يحقق المصلحة؛ باعتبار أن «النظر في عموم مصالح الأمة منوط بالإمام. وتواصل ظهورُ الكتابات بأنماطها الثلاثة على التوازي وبمعدلٍ متناقص من حيثُ العددِ والجودة بدرجاتٍ متفاوتة بين كل منها بتفوق واضح لنمط «السياسة الشرعية» ابتداءً من القرنين السابع والثامن الهجريين، وحتى بدايات القرن الخامس عشر الهجري/ النصف الثاني من القرن العشرين الميلادي تقريباً.
ومن العسيرِ تعميمُ الحكم على نجاح أو إخفاق جهود كتَّاب الآداب والأحكام السلطانية وفقهاء السياسة الشرعية في المساهمة في تحقيق مقصد «حفظ العمران» في تاريخ الأمة الإسلامية. ولكن المآلات النظرية والتطبيقية لتلك الجهود في مجملها لم تكن على المستوى المتوقع منها في إدراك هذا المقصد الكبير.
لقد انقلبَ نمطُ «الآداب والنصائح السلطانية» في أغلبه منذ وقت مبكر خلال القرنين الرابع والخامس الهجريين إلى مطيةٍ للتزلف لولاة الأمور ونيل بركات القرب من أعتابهم، في مقابل تسليتهم وإمتاع أسماعهم بالقصص والحكايات، والحكم والأمثال. وتيبسَ فقهُ الأحكام السلطانيةِ عند نشأته، ولم يشب عن تلك النشأة إلا قليلاً، ولم يحقق تقدماً يذكر منذ كتابات الماوردي وأبي يعلى الفراء والجويني؛ إذ سرعان ما دهمه فقهُ السياسة الشرعية وأزاحه من ميدان التأثير في مسارات الحكم والسياسة والعمران، وخلا له هذا الميدان، أو كاد، منذ القرنين السابع والثامن الهجريين.
وعلى رغم أن هذا الفقه انطوى على كثيرٍ من الأفكار والرؤى الإصلاحية التي تصب مباشرة في مقصد بناء العمران وحفظه؛ إلا أنَّ هيمنةَ فكرة «التوسعة على الحكام» وهي الفكرة المركزية لهذا الفقه كما أسلفتُ، أساءَ توظيفها كثيرٌ من الأمراء وبعضُ العلماء، حتى باتت -على غير المقصود الأصلي منها- مرقاةَ الصعود إلى أعلى مراحل الاستبداد السياسي، والعسف بحقوق الإنسان، وانتهاك كرامته من أبواب متفرقة، منها باب العقوبات التعزيرية. ولهذا، لم يكن غريباً أن أغلب فقه السياسة الشرعيةِ لقي ترحيباً من طغاة الولاة والأمراء والسلاطين والملوك والرؤساء وعلماء السلاطين على مر الزمن، منذ أكثرَ من سبعة قرون وإلى الساعة.
فتحَ فقهُ السياسة الشرعيةِ باب «الذرائع» على مصراعيه أمام تصرفات الإمام في عموم مصالح الأمة، وكان أخطرها على «الإنسان» وهو مادة العمران وخميرته الأساسية: باب «التعازير»، التي سوغ فقهاء السياسة الشرعية، وبعض الأصوليين من غير فقهاءِ السياسة الشرعية؛ كي يفعل «ولي الأمر» ما يراهُ من منظوره الأمني. واستمسك الطغاة بفكرة «التوسعة عليهم» في سلطاتهم، وقربوا ولا يزالونَ مَن «يوسع عليهم»؛ ومنْ وسَّع عليهم وسَّعُوا عليه، ومن لم يوسع أوسعوه بما لا تشتهيه الأنفس ولا تلذه الأعين.
والمُشْكل هنا هو أنه ليس بوسع أحدٍ أن يعاندَ في حقِّ السلطان في التعزير لاعتباراتٍ أمنية، أو غير أمنية. وليس بوسع أحد كذلك أن يعترضَ على حق القاضي في التعزيرِ لاعتبارات حقوقية وقضائية؛ ولكن المعاندةَ والرفضَ إنما هما لهذا التوسع في سلطةِ ولي الأمر في ظل عدمِ وجود اجتهادات وضمانات ترسم طرقاً واضحة ومعروفة سلفاً للتأكد من سلامة ممارسته هذه السلطات، وعدم وجود طريقة للتأكد من جدية أدلةِ الاتهام للذين يقعون تحت طائلة تلك السلطات، وكفالة حقِّ المتهم في الدفاع عن نفسِه، وحق الفئات المظلومة من أن تطالب بحقوقها وهي آمنة.
لا يزالُ هذا البابُ مشرعاً، وإن بأسماءَ مختلفة، إلى الساعة. وأنتَ ترى أن علماءَ السلاطين لا يزالون يبررون إزهاقَ الأرواح البريئة، ونسف المدن العريقة، وتهجير أهلها ونقض أسس بنيانها، وتدمير كل مظاهر العمران من باب السياسةِ الشرعية بالمعنى الذي ذهب إليه الأقدمون. وقبل هذا وفوقَه؛ فإن هذا البابَ بما آل إليه في التطبيق ـ وليس في أصوله ومقاصده النبيلة، قد تدحرجَ في الممارسات السياسية إلى أن أمسى البابَ الملكي لما عُرف في تاريخنا الحديث والمعاصر باسم «الأحكام العرفية»، و «قوانين الطوارئ» التي تتضمن شناعات تتضاءل أمامها فتاوى التعزير بما يجاوز الحد ويأتي على النفس، وتصبح معها فتاوى جواز التعزيرِ بضرب القفا مجرداً عن ساتر بالأكف نوعاً من المزاح(!)، ومن ثم ساهمَ هذا البابُ (ربما عن غير قصد مرة أخرى) في تجذيرِ الاستبداد السياسي، وأطلقَ يد المستبدين في الانفراد بالسلطة بحجة تدبيرِ عموم مصالح الأمة، وصون عمرانها وأمنها واستقرارها.
وفي أغلب الحالات: لا الأمة حققت مصالحها، ولا حافظت على عمرانِها، ولا احتفظت بكرامتِها، ولا نعمت بالأمنِ أو بالاستقرار.
والخروج من هذا المأزق الذي آل إليه فقهُ السياسة الشرعية، يبدأُ – في نظري – بعلاج العلل التي أفقدت الأمة ولايتها على نفسها، وحرمتها كرامتها وسلبتها حريتها بذريعة «التوسعة على الحكام»، وبقصد درء الفتنة، وحقن الدماء، وإدراك المصالح العامة، وحفظ الدين، والحفاظ على الوحدة، وغير ذلك من المقاصد النبيلة، التي كشفت وقائع التاريخ وحوداثه أن سلطاتِ ولي الأمر الواسعة لم تفلح في تحقيقها، وإنما أساء استخدامها لتحقيق مآربه، وكان الثمن – ولا يزال – هو مزيد من امتهان كرامة الإنسان، وضياع المصالح، وإهدار الحريات، وتدمير رسوم العمران والإتيان على أصوله، على النحو الذي مارسته أنظمة التغلب التي انقلبت على الربيع العربي، وكان «علماء السلطان» في مقدمة مؤيديها، بالرجوع إلى مبررات من فقه السياسة الشرعية.
لا مفر من استئناف مسار «الأحكام السلطانية» أولاً على أساس تقييد سلطة الحكام، وثانياً من أجل تشريع محاسبتهم ومعارضتهم، وثالثاً من أجل ضمان الحريات العامة والفردية، وصون الكرامة الإنسانية، والتزام العدالة بكل أبعادها، وبهذا يمكن أن يتحقق مقصد صون كرامة الإنسان، مع أو قبل مقصد «حفظ العمران» بأوسع معانيه.

(الحياة)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى