رواية «البيت الأزرق» لعبده وازن انتحار قدّيس!
![](/wp-content/uploads/البيت-الأزرق-1.png)
بول شاوول
رواية عبده وازن «البيت الأزرق» (منشورات «ضفاف»)، و«الاختلاف» (بيروت)، رحلة طويلة في أدغال شخصيته الرئيسية وفي شهوده ومعارفه، وحبيبته غادة، وما يحيط بهم في منطقة جونية، (والمتن الشمالي)، والكسليك، بحاناته الليلية، ومقاهيه، وصولاً الى الضحية، والأهم، محاولة كشف ذات المؤلف المتماهية الى حدّ كبير بشخصية «بول»، يجمع بين كل هذه العناصر المخطوط الذي تركه هذا الأخير، وكأنه بيانه، أو وصيّته، أو فك رموز الجريمة التي اتهم بها.
وهنا تبدأ «مغامرة» المؤلف (سينمائي وصحافي)، الذي ارتجل نفسه، محققاً بوليسياً، للوصول الى «سر» الجريمة التي ذهبت ضحيتها سعاد (فلسطينية من مخيم ضبيّه). وكان عليه أن يبدأ، بمعارف بول، «قراري أن أبدأ البحث عن بول أولاً أسراره، ماضيه..، لتبدأ عملية»الاستجواب«والاستماع الى مختار حارة صخر، والأب جورج، اللذين رسما الخطوط الأولية لشخصية بول:»عاجز عن أن يقتل. هذا قدّيس. كان وحيداً بعد وفاة خالته«التي تبنّته بعدما هجر والده العائلة ولم يعد، وماتت والدته..!
»كان يهوى المشي«، هو يجوب المناطق على قدميه؛ وسماه بعضهم»الهربان«…»كان قبلها يتكلم، إلتحق بجامعة الكسليك واختار اختصاص الفلسفة. و«قيل إن مرضاً أصابه في حنجرته فعاقه عن الكلام». «إنّه ليس مجرماً لكن المستغرب أنّه لم يدافع عن نفسه في المحكمة، ورفض توكيل محامي دفاع عنه»، و«وزّع أملاكه على الجمعيات الخيرية».
وهذا تقريباً ما اعترف به النجار بطرس «حزنت كثيراً عندما قبضت عليه الشرطة. ألقوا عليه تهمة قتل الفلسطينية التي كانت تدير مع صاحبها أحد النوادي الليلية في بلدة المعاملتين.»أن يقتل فتاة ليل عاهرة، ولماذا يقتلها: كيف رافقها الى حرج شنعير البعيد وقتلها في احدى الخرائب كما قرأنا في الصحف«. أو»قرّر فجأة ترك الدراسة. كانت تنقصه سنة لكي يكمل الليسانس في الفلسفة واللاهوت«..
…»ثم انقطع عن الجميع«. ثم اتصل المحقق بالأب ألبير طربيه»علّمته الفلسفة الإغريقية ثم الألمانية ثم اللاهوت«»إنّه الغريب الغامض يحب دوستوفيسكي وإحدى شخصيات روايته «الأبله»: قارن بول شخصية الأبله هذه بشخصية المسيح«! وأحبّ»نيتشه«..، وبنى مقولة»الآخرون هم الجحيم«(سارتر).»أما الجريمة فدبّرت له«. ثم يصل الأب ألبير الى قصة حب بول التي عاشها وانتهت نهاية أليمة» عاش سنتين من الحب، وبات مقبلاً على الحياة: «حبيبته هي غادة داغر».
إذاً، على المحقق أن يصل الى غادة، فلا بد أنها تمتلك فك رموز هذه الشخصية، والجريمة…
جمالها
التقاها. لكنها خلّبته بجمالها (انحرفت مهمة المحقق) «هل وقعتُ في حبها من»النظرة الأولى؟«. يفتح قلبه لها. ويخبرها عن المخطوط»في البداية «قبل البدء بالعمل قررت البحث عن بول وإجراء ما يشبه التحقيق حوله بعدما جذبتني شخصيته». «ومن دلّط عليّ؟» – الأب ألبير طربيه «وبدا أنها لا تحبه.
واعترفت بحبها له»كان شخصية تراجيدية لم أتمكن من العيش معه«.
لكن السؤال الذي ألح على المحقق»كيف قتل بول سامية «فتاة البار». وهنا يعود الى الأب ألبير «شخصية بول أعمق من غادة وأصدق وأرهف. كان له أن يعيش بحرية تامة، بلا قيود، متحرراً من الحياة نفسها. كتلة تناقضات بول. فلو لم يخب في حبّه، أكان يقدم على ما فعل بنفسه؟».
وكانت غادة «تغار من صداقتي وبول. أنانية».
وهنا راحت تحوم أسئلة في رأس المحقق «هل الأب ألبير مثلي يكتم مثليته. يعشق بحب أفلاطوني. ظلّ يحبّه من بعيد»… أما الضحية سعاد مسعود «هل كانت تعمل في الدعارة المحترفة. من كان وراءها؟ لا بدّ من»عرصة«(أو قوّاد). إذاً فلأبحث عن سامية مسعود. ولجأ الى صديقة جوزف الذي يعمل في البارات»رأيتها مرّة أو مرّتين مع «العرصة» طارق الأحمر، خريج سجون، مهرّب مخدرات، وسامية عشيقته. أخضع الأمن طارق الأحمر للتحقيق بعد مقتل سامية طعناً، فخرج بريئاً، «كالشعرة من العجينة» لتقع التهمة على الشاب الأبله الذي قبض عليه منحنياً فوق يبكي، والسكين في يده«.
مرحلة أخرى
أما المحقق فدأب على تحقيق المعطيات بعد كل لقاء، لينتقل الى مرحلة أخرى من بحثه: ومن جديد جوزف»قابلت صديقي «فادي البارمان» الذي يعمل في «النايت كلوب» حيث كان يسهر طارق الأحمر مع نسائه ومع غادة: «فادي مصدر جوزيف، وجوزيف من عمّته». «كان الأحمر محمياً من فوق. من السلطة». كان يضرب سامية كثيراً في أيامها الأخيرة ويهدّدها بالقتل«. وعندما التقى غادة أكدت شكوكه حول الأب ألبير عندما نقلت عن بول»كنت أعرف نيات الأب ألبير وحبّه لي لكنني كنت أتغاضى عن كلامه المبطّن«.
حتى الآن لم يجد المحقق – الروائي حلاً لإنهاء روايته، ذهب بعيداً الى»رواية أخرى«. فإذا كان لم يحسم طريقه اختيار انتحار بطلته (وهنا يستعرض أسماء نساء عديدات انتحرن)، فها هو وقع في»انتحار«شخصية أخرى في قصة أخرى، ولا نعرف الى أي مدى تماهت الشخصيات التي اجتمعت حول»الشبح«بول، وشخصيات روايته. لكننا نعرف أنّ شخصية بول قد فتنته. لكن لماذا فتنته: (متمرد على المجتمع لكنه تمرّد أقرب الى المعطيات الثقافية والدينية، والفلسفية والعبثية)، والخروج على المجتمع: ملامسة وجودية سارتر في»الغثيان«أو ألبير كامو في»الغريب«، أو حتى الوجودية»المسيحية«عند غبريال مارسيل. لكن هذا الافتراض قد يصطدم بأن لا اللاهوت (الميتافيزيقيا)، ولا الفلسفة (العقل) أراحا بول، فترك الجامعة، ومضى. ولذلك حبّ غادة لم يخفف من»غلواء«قلقه، ولا عطف عمّته، ولا مشاعر الجيران الايجابية نحوه، ولا فلسفات الأب ألبير، وثقافته. لا شيء. هنا التمرد ملتبس. ولهذا تماهى بول بـ»أبله«دستوفيسكي (الذي يشبه المسيح)، وربما تماهى بروستوفيسكي خصوصاً في كتابه»يوميات في السجن«، أو حتى بالعبثية عند بيكيت أو يونسكو. وهذه العبارة التي كتبها ألبير كامو»هذه الحياة لا تستحق أن تعاش«، تضيء بعض جوانب حالته. فالمشي عنده من مُتَعهِ الأخيرة: والمشي عبر المناطق والغابات بلا هدف وكأنه المشي في ذاته. كأنه تحضير يعتمل في دخيلاته: الموت هو الحل. لكن كيف: بالانتحار. ليس الانتحار السريع كقطع عروق اليد، أو تناول حبوب مخدّرة… بل يريد موته أن يشبه حياته. حياة المجتمع»الساكن«الملول، البطيء حوله… حيوات الشخصيات التي عاش معها: من عمّته، الى الأب ألبير، فالمختار، فغادة نفسها… لكن هؤلاء يصنعون مجتمعه: من هنا كسر الحوار معهم. بالبكم الاختياري. يحاوره بالكتابة إذا اقتضت الضرورة، ويتجنّب»الصوت«، وصدى الأجساد. إنه الصمت.
»الأبله«الصامت نقيض»مجنون«غوغول الثرثار؛ يحيل كلامه الى نفسه. هذه البقعة المجهولة منه. هذا الأناة البلا شكل. ولا رنين… وهذه الاستقالة من المجتمع، والحب والمعرفة، والثقافة، والصداقة مقدمة للاستقالة المؤجلة من الحياة. إنها الشخصية الوحيدة التي حسمت أمرها.
صحيح أن معظم الشخصيات يلتفون حوله. كحضور ما، لكن هذه الشخصيات تلتقي الكثير مما يدور داخله، وما تراءى له»قيما«»أخلاقية«،»وخصائل«: اجمعوا على أنه بريء، لأنهم يظنون أنفسهم أبرياء، بول، انفصل حتى عن آخر خشبة يمكن أن يتعلق بها. حتى غادة امرأة قلقة فشلت في حب بول، ثم فشلت في زواجها… ثم هاجرت تاركة وراءها حب»المحقق«…
وجودية
لكن هل يعني، وبحسب تحقيقات المؤلف أن أزمته»وجودية«فقط. أو حتى ميتافيزيقية (أي تجريدية، فلسفية)، ربما.
ولكن إذا استعدنا طفولته، (هرب والده ولم يعد، ماتت والدته وتبنّته عمّته)، وانتكست علاقته العاطفية بغادة، وفقد إيمانه بالعدالة الاجتماعية (وربما السموية)، بتواطؤ الشرطة والقضاء مع القوّاد الذي برأته المحكمة.
السؤال الآخر
لكن»المحقق«لم يطرح سؤالاً قد يكون من العوامل المهمة: هل مارس بول الجنس فعلاً مع غادة أو مع سواها؟ هل يختزن مثلية مكبوتة (كالأب ألبير)، أم قد يكون عاجزاً جنسياً (بالتحليل الفرويدي)؟ وإزاء هذه العناصر نجد أنّ بول الذي عاش حروباً ومجازر ودماراً وخراباً في بلده فأين هي؟ انها المضمرة. أو المغيّبة. فلمَ لا يكون»اخفاؤها«سراً من أسرار أقدامه على الانتحار؟ (انها مجرد افتراضات). لكن ومن خلال المعطيات التي وفّرها المحقق، نجد أن تصميم بول جاء من داخله. من فيروس داخله. من ورمٍ خبيث في روحه.
فهي حالات فصاحية. شيزوفرانية. عنفية على نفسه (وعلى المجتمع) وبل قد تكون مازوشية… مصحوبة بفكرة»الضحية«المسيحية. كما أشار المحقق هو تقديم الذات كأضحية لخلاص ما، أو لعذاب ما، أو لمعاناة معاً، حتى الموت.. فهو للجسد في النهاية. تعنيف الجسد. إماتته.
نفيه… ويعني نفي كل ما يتصل به. نفي الجسد هو في النهاية نفي المجتمع. وفكرة موته (البطيء المازوشي) هو موت كل ما يتصل به. ربما هذا ما استشعره المحقق. وربما هذا ما ذكّره بتلك الفلسفات واللاهوتيات وإيديولوجيات الاستغناء عن الجسد، وكأنها إيمان بالاستغناء عن الحياة. عن الحواس. عن الكلام. عن العلاقات. من هنا ان محاولة البحث عن بول هي بحث عن تضاريس ما يجري في داخله.
وإذا كان بول»تنسك«، وتقشف في أموره، وانقطاعاته، وغربته، فلأنه لم يبقَ له سوى جسده. هو الامتلاك الأقصى، وهو الثمن. ثمن هذا العالم الهش. ثمن كل هذه الأفكار الدينية، والأخلاقية، والعبثية والوجودية. من هنا يبدو والجسد وكأنه ثمن الحرية النهائية. والموت هو حريته المطلقة. بلا قيامة. ولا أمل. ولا ما بعد، ولا ما قبل. ولا من معنى.. ولا منه مُعين. لهذا السبب، ربما، وجد بول أفضل صديق له في السجن. وليس خارجه. وفي جسم الآخر المخلوع، المثلي، الشاذ، المتمثل بجورج أو جورجينا، ولهذا سلمّه المخطوط. كآخر علاقة يمكن أن يرتبط بها على هذه الأرض»الفانية«. فالمخطوط نفسه، هو كل ما تبقى له من أواصر بالسجن وخارجه. أي بالمجتمع. رسالة اعتذار؟ أو كشف حقائق. أو هوية. أو تبرير. أو روادع؟ ربما كل هذا. لكن المخطوط لم يأتِ بكل ذلك… إذ كان صدى لهذا المجتمع. عرفنا بول بمساره، وأخلاقه، وانقطاعه، وهروبه وبراءته قبل أن يكرّرها في المخطوط.
كنتا ننتظر وهنا، (التشويق) أن يحمل هذا المخطوط ربما اعتراف بول بقتل فتاة البار عكس اعتقاد الآخرين. لكنه لم يفاجئنا. المفاجأة جاءت بعلاقته بالسجون: من الاحترازية، الى»المحكومين«نال آخر، شعر بول انه كان المناسب للإضراب عن الطعام… والانتحار والتلاشي البطيء. أي بإطالة معاناة الجسد. والاحتضار. والوداعات والتلاشي تحوّل بول بعد ذلك»شبحاً«. ذكرى القديسين. والأولياء. فالتضحية هي من الأسس التي قامت عليها الأديان في مجملها من الوثنية الى التوحيدية، بل وكل الأفكار الكبرى: الموت. الدم. القتل. من أجل عالم أفضل. لكن أروع ما عند بول انه»أضحيته«الذاتية لم تكن لا من أجل عالم أفضل، ولا أرفع: مجرد تخلص من حياة استقال منها،»لا تستحق أن تعاش«. لهذا فالانتحار كأنه من أصول عادية عنده. زوال هذه الآلة المعطلة أصلاً. وهو لا يشبه في ذلك لا»المسيح«، ولا الأمير مشكين… ولا سجن دوستوفيسكي… ولا من أجل الانتقام من»المجتمع«، ومن»الآلهة«(التي تركته)، وهنا بالذات قوة هذه الشخصية، التي تقرب موته من الشعر الخالص. من القصيدة الطويلة. من الملحمة الداخلية التي تحطمت كل تواريخها وشخوصها وأبطالها. أهو بطل سلبي إذا؟. لا. بالنسبة الى»المحقق«، هو بطل جميع بين الافتنان بجسمه المنعزل، وبين الافتنان بموته. لم يترك شيئاً وراءه. سوى مخطوط. رسالة وداع الى عالم هامد. ساكن. أبكم. ومن بعده، فليحلّ الصمت (كما في نهاية مسرحية»هملت«) لشكسبير، الصمت العظيم.
المخطوط
وعندما نتابع تفاصيل المخطوط، ومصير الشخصيات الأخرى نجد وكأن»العقدة«الدرامية (بمواصفات الرواية)، لم تخل وبقيت معلقة. فالأمير ألبير ما زال في معضلته»المثلية«المكبوتة (أي الجسدية لا الروحية)، وغادة، بعد فشل علاقاتها ببول، وفشل زواجها، ومحدودية علاقتها بالمحقق، كأنها ما زالت في المرحلة الأولى، ولهذا قررت الابتعاد الى»المنفى«الى كندا (منفى بول في مجتمعه)، والتحقيق لم يفضِ الى نتيجة. والمحقق، الذي فجعه رحيل غادة، ربما لم يجد ما كان يبحث عنه في روايته غير المكتملة: الطريقة التي سيختارها لتنتحر بطلته.
وربما، قد يكون غير النهاية المأسوية. وربما لا! أي عاد الى مربّعه الأول. ونظن أن متعة هذه الرواية هي في سكونها (كالقصيدة)، تتحرك أحداثها، وشخصياتها من دون أن تتقدم. تتأزم من دون حلول. تتعقد وتبقى معقودة.
وهنا، نحصل على متع عدة هي نتاج روايتين متشابكتين، متداخلتين كما أرادهما المحقق.
رواية بول نفسه. ثم تقنية التحقيق، ومفاتيح الأزمة، ومشارف الحلول: يتنقل المحقق من شخصية الى أخرى، ومن حلقة الى أخرى، بحسّ بوليسي مشوّق، من المختار الى النجار، الى جار بول بطرس، فإلى غادة، فإلى البارات، ليخلق انتظارات عند القارئ، تشبه انتظارات المتفرج في الأفلام البوليسية و»الثريلر«، و»اليولار«. وأظن الكاتب هنا براعة في هذه المهمة الجديدة: كاتب لم تكتمل روايته، يبحث عن رواية أخرى؛ لكن الروايتين تداخلتا: قفزت بضع شخصيات من قصة بول الى رواية المحقق، وهذا يذكّرنا بمسرحية بيرافولو –»شخصيات تبحث عن مؤلف«، أحب هذا الآخر عشيقة بول أي غادة، وأقام علاقات صداقة مع أصدقاء بول. وتسلم المخطوط بنفسه، ف.ج. ورث بول، بل ورث أن يكون»بول آخر«. بل كأنه أراد بذلك أن يكون الوجه الآخر لبول، الوجه الذي اختار العمل بدلاً من الانزواء. الجسد الجنسي، بدلاً من الجسد الملتبس. الجسد الاجتماعي بدلاً من الجسد التجريدي. العبث الاحتفالي، بدلاً من العبث المتقشف: وإذا أخذنا الصورتين، يتم تماثل ما، أو تماهٍ ما، بين الشخصيتين عبر مسار الروايتين المتشابكتين.
فالمحقق مخرج ويعرف كيف يدمج الصور. وكيف يؤدي عملية الميكساج، وكيف تتحرك الشخصيات على البلاتوه. لكن المحقق اختار أن يصير هو البطل – البديل… وجهان في صورة واحدة: لعبة القرين بامتياز.
مستويات الكتابة
إذن لا بدّ من وجود عدة مستويات في كتابه هذه التماثلات، والاستجوابات، وطرق البحث: لغة»المحقق البوليسي«، صاغها عبده وازن بمهارة، وعرف كيف يوازي بين أسلوبه البسيط، وبساطة بعض الشخصيات – الشهود: مثل جار بول بطرس، أو النجار أو المختار… أو العمّة أو فادي البارمان. لم يختر لهؤلاء لغة فلوبير المتأنقة، الأرستقراطية، بل لغة الحياة اليومي (إميل زولا مثلاً)، ببساطتها ومباشرتها وإيقاعاتها وعفويتها ومرارتها، واندفاعها.
لغة المجموعة
إنها لغة المجموعة.. المحيطة ببول بأماكنها المحددة جونية وجوارها، بباراتها وبمقاهيها، وشوارعها وناسها. وهذا لا يعني أن عبده وازن أراد بحثاً سوسيولوجياً حول الفضاء الذي تحرك فيه بطله.. بل كأن هذه المحطات مجرد ديكورات وظّفت»للتحقيق«البوليسي، تماماً كما فعل بول أثناء إقامته في سجونه المختلفة.
المستوى المتخيّل
ونظن أن»المتخيّل«تجلى لغته في القسم الآخر: أي سيرة البطل البديل، المؤلف، ولقاءاته أيضاً، مع الأب بيار خصوصاً، عند ارتفع الحوار الى مستوى الفلسفة واللاهوت والدين، فتحوّلت اللغة من مادية الى تجريدية بمصطلحاتها ومضامينها.
الحوارات فلسفية، وفكرية، من طينة لاهوتية، لا سيما عندما يشرح الأب بيار أفكار وهواجس بول الدينية، التي تلتبس في معطياتها: يحب المسيح لا المسيحية، واللانتماء، اللاالتزام، لا جدوى الحياة. عبثية الكون… والمثلية.
لكن نستشف أيضاً مثل هذه الأجواء عند المحقق – المخرج، الذي يتماهى ببول بكل جنوحه، وفردانيته، وتبريره لاختيار»الانتحار«البطيء بالاضراب عن الطعام، أو بتداعيات عاطفية تجاه غادة في داخل المحقق، أو تذكاراته لحبّه الفاشل مع نسرين… تتلون اللغة هنا بما يشبه»الشعرية«(شخصية بول في النهاية شخصية شعرية).
نجح عبده وازن في جمع كل المتناقضات وطبائع الشخصيات وأحوال بول في بنية متماسكة، على غير تصدّع وانفلات وشرود عن المتطلبات الروائية.
رواية مشوقة من جهة، ومؤثرة من جهة أخرى، ومأسوية، لكن في جميع الحالات عمل مشدود، مصوغ، ومقود جيداً بكل خيوطه، وجهاته، واعتمالاته.
إنها أكثر من»بيت أزرق«هو السجن، بل البيوت كلها في هذا العمل الروائي…»بيوت زرقاء»!.
(المستقبل)