أخبار الفن السيئة

فاروق يوسف

في نظر عدد كبير من الناشطين العرب في مجال الفنون البصرية فإن مصير الجمال لم يعد يستحق الاهتمام. لا أحد منهم يكترث إن غاب الجمال المجاور لجمال الطبيعة بعد أن صارت المسافة تتسع ما بين الصنيع الفني وبين أثره الجمالي الذي يؤسس لذائفة ومزاج مترفين.
في أشد حالات اشتباكه بالألم ولحظات الشقاء والقلق كان الفن يفتح نافذة للأمل من طريق الجمال. ذلك ما يمكن ملاحظته في «صرخة» إدفارد مونخ وفي «غورنيكا» بابلو بيكاسو وفي «أقفاص» فرانسيس بيكون.
لا يتعلق الأمر بجمال الألم أو الشقاء أو العذاب أو كوابيس العزلة بل بالجمال الذي يعدنا بحياة لا تزال ممكنة بما تنطوي عليه من تحد ومقاومة ورفض وتمرد على الواقع.
لقد تعلم الفنانون من الطبيعة سر قدرتها على التجدد من طريق العودة إلى أصولها الجمالية التي تستند إلى قوانين، تتغير أساليبها غير أن جوهرها يظل ثابتاً. فما كان جميلاً لدى رسام عصر الباروك (القرن السابع عشر) رامبرانت ظل مهيمناً بقوة خياله على رسوم بول سيزان، رائد المدرسة الحديثة في الفن. وهي المدرسة التي ألقت بظلالها على القرن العشرين.
لهذا السبب فإن المتاحف الفنية ليست أماكن للذكرى. فما من شيء من محتوياتها ينتسب إلى عالم العاديات (أنتيك) الذي جرى تخطيه وصار بحكم الاستعمال نوعاً من الماضي.
بهذا المعنى فإن فن بابلو بيكاسو مثلاً لا يزال حياً لأن الجمال الذي يقترحه لا ينتمي إلى عصر بعينه وهو ما يجعله عصياً على أن يصنف تاريخياً. لا تزال رسوم بيكاسو تمارس تأثيرها كما لو أنها رسمت اليوم. لقد محيت المناسبات التي كانت ذريعة لرسمها غير أنها لم تمح ولم تنسحب من الحاضر.
هناك جوهر للفن إن تم تخطيه فستكون العودة إلى الفن بعده مستحيلة. يمكننا في تلك الحالة أن نتوقع ولادة ممارسات أخرى غير أنها لن تشكل حلقة في ذلك التاريخ الذي لا ينتسب إلى زمن بعينه.
ولأن الجمال هو سر ذلك الجوهر فإن كل المحاولات المعاصرة للاستغناء عن الجمال انما تعدنا بممارسات لا صلة لها بمفهوم الفن. وهو ما لا يشكل حافزاً لرفضها أو عدم الاهتمام بها غير أن الشك في إمكانية استمرارها يجد أسبابه في عدم قدرتها على تقديم البديل الذي يكون في إمكانه أن يقيم الجسور إلى المستقبل. لا تزال الممارسات المعاصرة سجينة لفكرة الظاهرة التي تنتهي في أوانها. لا شيء يبقى سوى ذلك الشعور اللافت بالملل. من المؤكد أن هناك الكثير من فكر الحركة الدادائية (زيوريخ 1912) لا يزال عالقاً بكل الفنون البصرية المعاصرة.
الدادائية التي أقامت وجودها على أساس رفض المتاحف انتهت ومنذ زمن بعيد سجينة المتاحف، بعيداً من الحياة. ما يفعله فنانو اليوم لا يقع بعيداً من ذلك الضجيج الدادائي وإن بدا أكثر تنظيماً وهيبة بسبب رؤوس الأموال التي وضعت في خدمته.
لأحد الفنانين العرب نصب هو عبارة عن تل من الأحذية الرياضية. رأيت ذلك العمل ضمن مقتنيات متحف غوغنهايم أبو ظبي في عرض تمهيدي. يومها قلت لنفسي مستفهماً «وماذا بعد؟» ما من شيء يعدنا بالجمال في ذلك العمل. ولكن ما الفكرة؟
نعم الفكرة هي الأساس لمروّجي الفنون المعاصرة وكان هذا الفنان واحداً منهم. غير ان المشكلة تكمن في أن الأفكار لا تصنع فناً. مهما كانت الفكرة فإنها ستفقد بالتأكيد قيمتها إن تم التعبير عنها بطريقة رديئة.
وتلك قناعة لا تستحق أن يلتفت إليها أولئك الناشطون لأنها قديمة وقد عفا عليها الزمن. وما البديل؟ أن يقوم الفنان بعرض أفكاره وغالباً ما تكون تلك الأفكار سياسية واجتماعية تكمن أهميتها في ما تحققه من دهشة لدى متلقيها. الأمر الذي يهب العمل الفني الملحق بها قيمته المنشودة.
المشكلة التي صار كثير من المهتمين بالفنون البصرية وأنا واحد منهم يعانون منها لا تكمن في عدم الفهم، ولكن في معرفة القيمة الحقيقية التي يمكن أن يكون عليها العمل الفني بمعزل عن النظريات التي تمهد له وتحيط به.
يمكننا أن نرى أعمالاً فنية لبرانكوزي وهنري مور وفنسنت ومونيه وجياكوميتي ووليام دي كوننغ وجاسبر جونز وتورنر وتابيز وسواهم من الفنانين ونتمتع بها مأسورين بما تقدمه لنا من هبات جمال كريمة من غير أن نكون مضطرين للبحث عن الدوافع الفكرية التي تستند إليها تلك الأعمال. لم يكن هنري ماتيس في حاجة إلى أن يشرح فنه. كان جمال صنيعه يكفي.
يشعر الفنانون المعاصرون ومن حولهم الناشطون بأن هناك فراغاً يحيط بهم وعليهم أن يملأوه بأي شيء يكون قادراً على أن يحدث دوياً. كل ذلك من أجل أن لا يكون التفكير في الجمال ممكناً.
واقعياً فإن الجمال باعتباره فكرة لا يمكن عزله مختبرياً. فالحياة تنقص إن فقدته. بالنسبة إلى البعض فإن الحياة لا معنى لها من غير جمال. لذلك فإن أخبار الفن السيئة لن تكون إلا نوعاً من الأعاصير الموقتة التي ستمر مخلفة بعض الأضرار. غير أن الحكم ليس حقيقياً.
ما يجري اليوم أن هناك فناً قد تم وضعه بقوة المال والنفوذ السياسي محل فن سبقه. وإذا ما كانت هناك قاعات فنية لا تزال تؤمن بالجمال عبر العالم وهي قليلة فإنها ستنتهي في وقت قريب إلى الاستسلام.

(الحياة)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى