عربُ بروكسل يبحثون عن مليون دولار مزوَّرة

عبد الله مكسور

في روايته الأحدث “الكذَّابون يحصلون على كل شيء”، الصادرة مؤخراً عن دار ألكا والرافدين، يشتغل الكاتب العراقي المقيم في بلجيكا علي بدر على مستويات عديدة في عملية صياغة البنى السردية لعملٍ اختار الروائي أن يكون فضاؤه العام العاصمة البلجيكية بروكسل.

الحكاية التي تمتد تقريباً على مدى أربع سنوات، أبطالها من اللاجئين العرب إلى بلجيكا، أولئك الذين فرضت الظروف القاهرة المختلفة عليهم فكرة الرحيل عن أوطانهم الأولى، إنها فكرة ملتبسة في بداية الأمر لكن بدر ما يلبث أن يبدأ بوضع اللمسات الأساسية لانطلاق الحكاية التي يمررها على لسان السارد الغائب الذي شهد مصائر الشخصيات كلها، يعترف بهذا في الفصل الأخير الذي وسمه بعنوان فرعي “ما تبقى”.

 

شخصيات وأمكنة

يطوف الكاتب من خلال الأبطال الذين يستحضرهم على أحياء بروكسل ووسائل التنقل فيها، شوارعها، حاناتها، محلاتها، أسواقها، مطاعمها، نظام الحياة فيها، فنجد في العمل جرعة من المعلومات التاريخية التي تضع عارف المكان أمام تصور جديد له وعنه، إذ يبني علي بدر المكان بتصور عميق قبل إطلاق الحياة لساكنيه، فالخط السردي الأول في الرواية مبني على الهامشيين أو الفقراء الحالمين، هم جلال و”أمين أو جورج” الملقَّب بالأستاذ، ودلال، وفلاديمير، والبحار، والعصابة الألبانية، والفتاة البلجيكية، بينما يبرز المستوى الثاني المرتبط أيضاً بالمكان أولاً، عبر شخصية وزير ثقافة عربي أُطيح بالحكومة التي ينتمي إليها بانقلاب عسكري ففر إلى العاصمة البلجيكية، مُنتَظراً فيها مليون دولار أميركي كانت في خزينة الوزارة، حيث أوكل مهمة تهريبها إلى أوروبا لشركة تهريب أموال تركية، هذا المليون المُنتَظَر يصبِح الرابط بين المستويين، هو نقطة الاتصال بين الأحياء المتجاورة والمتباعدة في بروكسل.

الوزير الهارب كما باقي الشخصيات في الرواية، يتتبع الكاتب منبته وتطوره الدرامي حتى وصل إلى حي لويز في العاصمة البلجيكية، هذا الحي الذي أصبح ملاذاً للسياسيين المنفيين أو المُطاح بهم عقب الربيع العربي، ومن خلال هذه الشخصية يعبر بنا الكاتب جغرافية السكن الخاصة بهذه الطبقة التي تتقاسم اللجوء مع أولئك الذين فروا منهم خلال وجودهم في السلطة، لكن حي لويز مختلف عن أحياء بروكسل، يقول علي بدر “إنه أفنيو لويز، الأفنيو الذي سمِّيَ على شرف الأميرة لويز، الابنة البكر للملك ليوبولد الثاني، وعلى مقربة من نقطة تلاقي الترامات، تأتي ساحة ستيفاني الواسعة نسبياً التي سميت على اسم شقيقة الأميرة لويز، لتتحول هذه البقعة بعد سنوات إلى البقعة الأكثر أناقة في بروكسل برمتها، ليس بمحلاتها الراقية فقط إنما بما يتخللها من بقع خضراء وشجر معمِّر أيضاً”. ويصف أيضاً نمط حياتهم الذي يضعه في إطارالعطلة الطويلة غير المحدودة.

نسأل ضيفنا عن المكان في روايته “الكذابون يحصلون على كل شيء”، ليقول إن الرواية لا تنفصل عن المكان، المكان هو الذي ينتج الأحداث والشخصيات والحبكة والرؤى وكل شيء. هذه رواية عن اللاجئين لكن الخلفية هي مدينة بروكسل بأثرها التاريخي والجغرافي والاجتماعي، لن تكون هذه الرواية في بغداد ولا في روما ولا في برلين. فبروكسل هي التي أنتجت مفهوم الأموال المدوَّرة من قبل سياسيين هاربين، والأمر يتعلق بنشأة السلطة في العالم العربي، ونوع آخر مما أسميه تدوير النفايات، فهذه النفايات يطاح بها لتذهب إلى بروكسل ثم يعاد إنتاجها من جديد، وبروكسل مهمة فهي بلد بلا أيديولوجيا واضحة على العكس من لندن أو موسكو أو باريس.

الدوائر السردية في رواية علي بدر منفصلة متصلة، فكل شخصية هي قصة مستقلة عن الأخرى، قائمة بذاتها، إلا أن خيطا رفيعا جداً لا يلبث أن يتشابك باتساع الحدث مع كل ما يحيط به، فبطل الحكاية وزير هارب ينتظر مليون دولار أميركي، وفي هذا الانتظار يجمع حوله العشرات من الطامحين إلى النقود، أولئك اللاهثين خلف الوهم للتخلص من أعباء اللجوء، بينما يجد الوزير فرصة سانحة ليمرر إليهم الوهم للإبقاء على خدماتهم وليحافظ على مستوًى معيَّن من الحياة، إنه سرد يقوم على التداعي الحر للأفكار معتمداً على أوراق مسربة من ذاكرة جلال، الشخصية التي تشكل التوازن في النص، لكن الكاتب يلجأ في بنية النص أيضاً إلى الابتعاد عن هذه الحلقات نحو جغرافيا بعيدة كلياً عن أوروبا، فحين يضرب جلال موعداً للأستاذ عند بناية لومومبا في بروكسل صباحاً، نراه يأخذ القارئ في رحلة إلى الكونغو، رحلة استعمارية قادها البلجيكيون نحو تلك البلاد، ليمرر الكاتب حكاية اغتيال القائد الثوري الكونغولي باتريس لومومبا. يُرجِعُ علي بدر هذه الارتدادات إلى بناء الرواية الذي يقوم على التداعيات، فالأماكن والأسماء كما يراها هي إشارات نابضة ومحركة لتداعيات ثقافية وسياسية واجتماعية، وحكاية لومومبا جاءت في إطار تصفية الإرث الاستعماري.

في سرد متشابك يروي علي بدر حكايات شخصياته في “الكذابون يحصلون على كل شيء”، استوقفتني هنا بعض القراءات التشريحية التي جاءت كمقطع عرضي لحال السلطة في العالم العربي، في وصف منشأ الوزير على لسان البحار الذي رافق الوزير عندما كان موجودا في كامب اللجوء خلال انتظار الأوراق الرسمية التي سيعيش بها كلاجئ في بلجيكا.

 

مصائر مختلفة

هذه التداعيات في البوح على لسان الشخصيات تتخذ شكلاً آخر عند الوزير، فبمجرد اكتشاف أن المليون دولار المنتَظَر وصلَ مزوراً بعد استبدالِ الأوراق النقدية، يقبلُ الوزير مقايضة هذا المبلغ مقابل عشرة آلاف يورو أوروبي، لتنهض فكرة جديدة تبدأ بالسيطرة على ذهنه المضطرب، ليبدأ بإقناع نفسه والآخرين بأنه قادر على العودة إلى الحكم كوزير من جديد، “الأمر في غاية البساطة، مثلما حصلت على منصب وزير في المرة السابقة سأحصل عليه أيضاً مع الإسلاميين هذه المرة، إنها لعبة صدقوني، وهنالك الكثير من الأشخاص من هم مدمنون على هذه اللعبة، هي حياتهم هكذا، ونحن سنلعبها أيضاً”.

هنا تبدأ عملية السرد الحكائي بالاتجاه نحو النهايات، فتتجه كل شخصية من الشخصيات إلى لملمة ما تبقى من الفعل في المكان المفتوح على كل الاحتمالات، الأستاذ مثلاً يُغرَمُ بلعبة الروليت الروسية التي يمارسها فلاديمير كل أسبوع بعد أن يحشو مسدساً له بكرة دائرية بطلقة واحدة، ويراهن الجمهور على عدم خروج الطلقة حين عملية الإطلاق وينجو في كل مرة، بينما يخسر الأستاذ الذي ينسب كل المقولات إلى ماركس ويقع ضحية الضياع بعد اختراق الطلقة النارية لرأسه، دلال الفتاة السورية تدخل المصحة النفسية لأنها تعتبر نفسها المسؤولة عما حلَّ بالأستاذ، جلال يتزوج من صديقته البلجيكية ويتعهد بتربية ابنة دلال، بينما يعود الوزير بثوب مفكر إسلامي إلى بلاده، كما أعلنت الصحف صباح عودته.

حكاية تصلح لكل زمان ومكان، يصفها بدر بأنها عملية تفاعلات كيمياوية عبر اللغة؛ خليط من الأفكار والأحداث، ومن الوقائع والخيال، في الرواية الكثير من الواقع وفيها الكثير من الخيال، ولكنه في إطار نسيج خطابي واحد اسمه السرد، وقبوله كواقع أو قبوله كخيال يعتمد على المتلقي وعلى الحالة والموقع الذي ينظر من خلاله إلى الأحداث.

(العرب)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى