أحمد القرملاوي يبني عالمه من مادة وروح

إيهاب محمود الحضري

في روايته «أمطار صيـــفية» (الدار العربية للكتاب)، يدخل الكاتب المصري أحمد القرملاوي تجربة جديدة يحكي فيها عن وكالة الموصلي التي يعود نسبها إلى شيخٍ أسَّسها قبل قرون، تضمّ ورشة لتصنيع آلة العود. قد تبدو الفصول الأربعة الأولى غير قادرة على إقحام القارئ في أجواء الرواية وشخوصها، ولكن في الفصل الخامس تشعر كأنما الرواية بدأت فعلاً. تقترن البداية مع ظهور زينة، التي تزور مصر وفي جعبتها مشروع طموح لتحويل الوكالة إلى مركز موسيقي عالمي يخرج عن الإطار التقليدي، وينطلق إلى مساحات أوسع مستوعباً شتى الألوان الموسيقية الحديثة، شرقاً وغرباً. تعرض زينة مشروعها على يوسف، وهو الشخص الذي استلم مفتاح الوكالة من الشيخ ذاكر رسلان (والدها الذي لم تره قبل ذلك، ولا تشعر نحوه بشيء)، بعدما وجد فيه خير خلف له في إدارة الوكالة.
يقف يوسف أمامها مبهوتاً حينما تستعلي زينة عليه بنبرتها المادية الواثقة، وسخريتها المستترة من «كرامات» الشيخ الموصلي، الذي تشكك في وجوده من الأساس، وهو ما يرفضه يوسف في شكل قاطع. مع الوقت، يعود يوسف، الحائر بين روحانية الوكالة ومادية زينة، إلى مراجع تاريخية ليستوثق من وجود الشيخ الموصلي، من دون أن يضع يداً على دليل دامغ يستطيع رفعه في وجه زينة.
بدايةً من الفصل الثالث يجد القارئ نفسه أمام حكاية الشيخ الموصلي الذي يعود إليه نسب الوكالة، في إيحاء بوجود خطين للسرد؛ أحدهما يحكي عن الوكالة وأبطالها، والثاني يختص بسرد حكاية مؤسسها. يحدثك الراوي عن «بئر الأسرار» التي كان الشيخ يجلس إليها يدندن أوتاره. ومن ثم تجد الفصل الرابع يخبرك بالشيخ الذي كان صانع أعواد قبل أن يصبح إماماً صوفياً، مروراً برحلته من الموصل إلى مصر.
في الفصل الخامس ينقطع الحديث عنه ليعود في الفصل السادس ومن ثم في الفصل الثامن. بعدها ينقطع الحديث عن الشيخ وكراماته في الفصل التاسع؛ ليعود في الفصل العاشر إلى أن ينتهي تماماً في الفصل الثالث عشر من الرواية المكونة من 22 فصلاً، وكأن المؤلف يريد أن يزيد من التشكيك في وجود الشيخ، إذ لا توجد معلومات متوافرة عنه تمكن الراوي من نسج حكايته بوضوح. ولعلها خدعة «جميلة» من القرملاوي، وإن كانت بمثابة حيلة قد لا يفطن إليها القارىء عبر قراءة عابرة للرواية.
مع التعمق في النصّ، نجد زينة التي تولت نشر الرواية تتدخل لقطع حبل السرد، في ثلاث مداخلات، كتقنية استخدمها القرملاوي لكسر التوقع لدى القارئ. تُبدي زينة في هذه المداخلات اعتراضات تخص طريقة وصف الراوي لها، وسرده مواقف حدثت معها، في شكل قد يجانب الصواب. اللافت هنا هو أن مداخلاتها تجعلنا كأننا لسنا أمام نص أدبي قوامه تُستخدم فيه حكايات واقعية ويُعاد تشكيلها داخل إطار يحتفي بالخيال ويجنح إليه، بل إنها جعلتنا كأننا أمام نص واقعي، أو كتاب نظري تحاول فيه الناشرة تصحيح معلومات مغلوطة. في الحقيقة.
زياد من الشخصيات اللافتة في العمل، هو الذي لا تتقاطع علاقته مع الوكالة إلا من أجل إبرام صفقة ما؛ فيسرق أعواداً ليبيعها إلى أحدهم، أو ليجدد محاولاته مع «هايدي»: الفتاة التي استعصت عليه ورفضت، في ثبات، أن تبوح له بأسرار جسدها. زياد له حكاية نسجها القرملاوي وكأنه طبيب نفسي، فصوَّر خلجات نفسه باقتدار وصوَّر مشاعره بلغة رصينة، الى حد يجعلنا نتعاطف معه احياناً، على رغم ما انطوت عليه شخصيته من خسة ونذالة. هكذا تبدو حكاية زياد بدت كانها حكاية منفصلة، قائمة بذاتها، بحيث لو اقتطعناها من الرواية وبذرناها في تربة خاصة بها ستنبت زهرتها في يسر.
لم يتوقف الأمر عند صراعٍ بين المادة والروح، بين كرامات الشيخ التي يؤمن بها يوسف، في مقابل مادية زينة الغارقة بالعلم والتكنولوجيا الحديثة. بل يظهر في الرواية بعدان: العقائدي والسياسي. وهذا يتجلى من خلال جماعة من السلفيين الذين رأوا في ورشة تصنيع الأعواد (آلات موسيقية) رمزاً للهرطقة، والخروج عن التعاليم، وبعد خطبة يلقيها أحدهم، يخرج القوم جماعةً، يضرمون نيران الجهل في الوكالة التي نزفت ألحانها رماداً. احترقت الوكالة، بينما شيدت زينة على أنقاضها مركز «شرق غرب» لموسيقى الجاز والتكنو الشرقية.
النهاية هنا ليست مفتوحة كما قد يتراءى الى بعض القراء. فاحتراق الوكالة قد أنهى قصة الصراع بين السلفيين وأصحابها، كما نجحت زينة في إقامة مشروعها، فيما استمر زياد في غيّه، ولم يصل يوسف بعد إلى يقين تام في خصوص أي شيء. هذه هي الحياة؛ تنتهي قصص لتبدأ من نقطة نهايتها قصص جديدة.

(الحياة)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى