القارئ هو الطرف الأغر الذي يدخل لعبة إبداع القصيدة: مُحَمَّد عبدالسَّلام منصور: مشروعي هو المزج بين فن الشعر وقضية الإنسان

أحمد الأغبري

يرتبط الشاعر اليمني مُحَمَّد عبد السَّلام منصور (1947) بعلاقة شفيفة مع الشعر، كقضية يتراجع معها الشكل، وكرؤية تتماهى فيها اللغة الصافية، وكتجربة روحية تمزج بين الشعري والفلسفي؛ ليأتي فتحاً جديداً من فتوحات القصيدة المتصوفة؛ التي تجاوزت جدران الوجد إلى فضاء اللحظة المعاصرة، في صورةٍ شعريةٍ حديثة جداً، لا تنفك عن ابتهاجها بالحياة؛ حتى في حضرة الموت تتجلى أغنيةً للخلود.
كيفَ أشدو على نغماتِ الرِضا
وأنا الآهةُ النّائحةْ؟
وَتَري جارحُ الأغنياتِ
جريحُ الهوى
لنْ أغنّيَ هذا الغسقْ
سوف أفْنَى هنا جمرةً من قلقْ
بالإضافة إلى كونه شاعرا، هو قاضٍ ومحامٍ، صدرت له خمسة دواوين: «الهزيم الأخير من الوقت» 1997، «من تجليات حي بن يقظان» 2002، «تراتيل يمانية» 2003، «إيقاعاتٌ على خُطى النّفَّري» 2005، و»الديوان الغربي للشاعر الشرقي (إيقاع على شرقيات جوته)» 2007، بالإضافة إلى تراجمه ومنها: «الأرض اليباب» للشاعر الإنكليزي ت. س.أليوت، وعدد من الإصدارات النثرية. هنا حاورته «القدس العربي» في بعض جوانب من قصيدته:

الكتابة والنشر

■ تكتب الشعر منذ سبعينيات القرن الماضي… لكنك لم تنشر إلا مع نهاية عقد التسعينيات، ما أسباب هذا التباعد بين بدايات الكتابة والنشر والظهور؟
□ في الحقيقة؛ وأنا في ريعان الشباب مع بداية ثورة 26 سبتمبر/أيلول عام 1962 (ثورة انتقلت بشمال اليمن من الحكم الملكي الإمامي إلى الجمهورية) كانت الأناشيد الثورية والقومية، حينها، هي التي شكلّت بداية تذوقي للشعر، ومع تبلور وعيي الثوري، كان الشعر الثوري هو الأوفر اختياراً وقراءة وحفظاً؛ لأنه الأقدر على التعبير عن هموم ذلك الجيل الثوري والمقاوم. كنت أشعرُ وأنا ألوذ بهذا النوع من الشعر أن جمالية النص في كلمته المختصرة وتناوله الصادق وإيقاعاته البسيطة، براءته الدافقة، كنتُ أحس أن هذا الشعر يستند إلى معاناة حقيقية تتسرب إلى وجداني في سهولة حميمية، فيستحيل تعبيراً عن معاناتي، فكنا نحفظ منه الكثير لكبار شعراء اليمن والعرب. كان جيلنا مقتنعاُ بأن شعر هؤلاء هو الأقدر في التعبير عن همومه وتطلعاته، بما يحمله من فطرية المعنى وعفوية تكثيف الصور. وظلت علاقتي بالشعر وقتئذ علاقة القارئ المتذوق. وفي نهاية عام 1968 اتجه تفكيري لمحاولة قول الشعر؛ وتواصلت معي بإصرار باذلاً ما وسعني من جهد في اكتساب أدواته الضرورية بالقراءة. عموماً لم أجد خلال تجربتي مع الشعر من الاستقرار ما يجعلني أوفَّر للشعر المجهودات الكافية التي تجعلني أتخذه حرفة أو تخصصاً، على أني، في ما أظن، قد كتبتُ شعراً يحقق العناصر والمكونات الفنية التي تصل به إلى المستوى المقبول؛ فمنذ السبعينيات كتبتُ القصيدة ذات التفعيلة والعمودية والمدورة؛ إلا أنني منذ منتصف التسعينيات؛ رأيتُ بضرورة التفرغ للشعر الذي لم تنطفئ جذوته في روحي، ولقد أسعفني فأشعل روحي بقصائد شتى يبدو أنها قد تضامنت مع مطالبة الأصدقاء الملحَّة بأن أبدأ في نشرها؛ فصمَّمتُ على أن تخرج إلى النور حين اقنعتني أن القصيدة كالقُبلة لا تنبض بالحياة إلا باكتمال طرفيها، والقارئ هو الطرف الذي يدخل مع الشاعر لعبة إبداع القصيدة.
■ لكنك في ديوانك الأول «الهزيم الأخير من الوقت» تجاهلت ما كتبته قبل عقد التسعينيات، فلِمَ أنكرت الاعتراف بشرعية ما كتبته قبلاً؟
□ لم أنكرها؛ حيث كانت لي كتابات تستحق النشر، إلا أني أضعتُ كثير منها بسبب تنقلاتي وبسبب تعرضي للاعتقال السياسي أكثر من مرة، حيث كانت تُفتش أوراقي وتُصادر، كما أنني لم أجد، في الحقيقة، أوراقي، وما وجدته ليس فيه المحتوى الذي أريد. علاوة على أن علاقتي بالشعر لم تكن مستقرة، حيث كنتُ منشغلا بالدراسة وتأسيس ثقافتي.
■ على ذِكر الدراسة؛ فقد تخرجت في كلية الشرطة لتلتحق بكلية الشريعة والقانون في صنعاء ومن ثم الحقوق في القاهرة لتواصل الدراسات العليا في لندن، ما يؤكد أن الشعر والأدب، على علاقتك المبكرة بهما، قد غابا تماماً في اختياراتك الدراسية.
□ فيما يتعلق بدراستي؛ فإن جامعة صنعاء، عند افتتاحها عام 1970، أتاحت لخريجي الكليات العسكرية الالتحاق بها؛ فالتحقتُ بكلية الشريعة والقانون، ونتيجة لكثرة تعرضي للاعتقال السياسي لم يكن أمامي سوى إكمال دراستي في الخارج؛ فالتحقتُ بكلية الحقوق في جامعة القاهرة؛ فكنتُ بهذا التخصص «مكرها أخاك لا بطل». وعلى الرغم من كل ذلك لم تنقطع علاقتي بالشعر؛ وبقي الشعر جزءاً من حياتي. وعلى الرغم من قسوة حياتي فقد كنتُ أرطّب قسوتها بالقراءة الجادة والدراسة الأكاديمية في مجالات اللغة والأدب والفلسفة والاقتصاد وعلوم الدين وغيرها. وكان لهذا كله الأثر الكبير في إغناء معارفي الأدبية وتعميق نظرتي إلى الشعر وتطوير تجربتي معه.

القصيدة والقضية

■ ثمة ملاحظة مهمة تتجاوز ما ظهرتْ عليه في الديوان الأول مُمسكاً بخصوصيتك إلى السؤال عما يقف وراء وعيك الشعري المبكر بالحياة والقضية حتى تجليت في قصيدتك موضوعياً لا شكلياً؟
□ لقد ارتبطتُ بمرحلة ثورية أسهمت في بلورة رؤيتي ووعيي المبكر بالحياة، كما ارتبطتْ حياتي بمعاناة قاسية عاشها شعبنا اليمني، وكنا مع بداية الستينيات نستمعُ إلى إذاعة صوت العرب، ومنها كنا نستمع لأرقى الأصوات الشعرية والثورية التي استلهمتُ منها قيم الحرية؛ وهذا جعلني، وأنا في سن صغيرة، أفكر في قضية اليمن، التي عشتُ معاناة مجتمعها؛ فارتبطتُ بقضية تحرير اليمن من التخلف والجهل؛ وأطن أن هذه هي الأساسات هي التي جعلتني انصرف للقضية، وهذا لم يكن مجرد ردة فعل بل خطوتُ خطوة أخرى، وهي القراءة لمعرفة ما هي أسباب التخلف وكيفية الخروج منه، تلتها خطوات من المعاناة والقراءة والمعرفة كرَّستني موضوعياً في الشعر لا شكلياً مؤمناً برسالة الشعر وموقف الشاعر؛ فالشعر إذا لم يكن فيه رؤية وقضية فليس سوى تطبيلاً فارغاً. كما أن مشروعي الشعري هو جهاد نحو المزج بين فن الشعر كصورة شعرية حديثة جداً وبين قضية الانسان كرؤية وموقف…انطلاقاً من أن جمال الشعر لا يكتمل إلا إذا عبّر عن موقف إنساني جميل بلغة العصر الذي يعيشه وبأسلوب صنعه الشاعر ابتكاراً؛ لذلك لابدّ أن يكون الشعر هماً إنسانياً جميلاً يُبقي ظلاله على شفة التاريخ أغنيةً جارحة جريحة.

الشعري والفلسفي

■ رؤيتك هذه ارتقت بها، في قصائدك، مهارتك المعرفية والفنية في مزج الشعري بالفلسفي… وهنا نسأل عن سر علاقتك بالفلسفة؟
□ لعلاقتي بالفلسفة سر مرتبط بعلاقتي المبكرة بحركة القوميين العرب؛ ففي عام 1965 وأنا مازلتُ شاباً يافعاً كان يُطرح داخل الحركة ضرورة تبني نظرية خاصة بالحركة، وكان هناك نوع من الجدل الفكري. وللمساهمة في الوصول إلى تلك النظرية فقد بدأتُ حينها أقرأ في الفلسفة منذ فيثاغورس في اليونان، وتدرجتُ في ذلك تدرجاً كاملاً حتى وصلت إلى هيغل، ووقفتُ عنده ومن ثم خطوتُ منه إلى متفرعات فلسفته؛ وهي الفلسفة المعاصرة مادية ومثالية … واصلتُ هذه القراءات الفلسفية والدراسات التاريخية والاجتماعية والاقتصادية، حتى أنني قرأت آدم سميث وماركس ومجلدات كتاب رأس المال وغيرها، حتى يكون اختيار النظرية واعياً وصحيحاً وليس تقليداً؛ كوني كنتُ حينها من قيادات الحركة في اليمن، هذه القراءات أنضجت رؤيتي وشخصيتي، وهو ما انعكس في تجربتي الشعرية.

القصيدة المتصوفة

■ لكنك ظهرت خاصة منذ ديوان «من تجليات حي بن يقظان» وصولاً إلى «إيقاعاتٌ على خُطى النّفّري» متحققاً كثيراً في القصيدة المتصوفة… ما الذي جذبك لتُكرّس حضورك الشعري الفلسفي في هذه القصيدة؟
□ لا أخفيك أن القراءات الفلسفية هي التي قادتني إلى ابن عربي وإلى الصوفية عموماً على مستوى العالم وليس على مستوى الثقافة العربية، ففي ديواني «من تجليات حي بن يقظان» ألهمني ابن يقظان في رؤيته الفلسفية أن الحقيقة يمكن أن يدركها الإنسان بدون أن يحتاج إلى رسالة أو أنبياء؛ لأن رسول الإله لدى الانسان هو عقله، وعلى الإنسان أن يفكر حتى يكتشف المطلق والخالق.. فالإنسان يدرك الحقيقة في بلده بدون أن يحتاج إلى الرسائل الثقافية والإعلامية، فقط عليه أن يذهب إلى الثقافة الشعبية برؤى عقلية ذاتية.
■ وماذا كان هدفك من الاتجــــاه إلى القصـــيدة المتصوفة؟
□ عن قراءاتي للمتصوفة تجلت رؤيتي المتصوفة الخاصة؛ وهي أن الله في الإنسان منذ أن خلقه بدليل قوله تعالى «ونفخنا فيه من روحنا» أي أن روح الله في الإنسان منذ الخليقة، وليس هناك من فائدة في أن نبحث عنه خارج الإنسان؛ هو في داخل جسدك ويجب أن تعطي الجسد حقه حتى تكتشف الله فيك، ثم تخرج إلى الناس بهذه الذات الإلهية النسبية؛ لكي تنشر العدل والقبول بالآخر والتصالح معه… هذه هي رؤيتي الفلسفية التي تجلت كثيراً في ديوان «إيقاعاتٌ على خُطى النّفّري»، مؤكدة جدارة هذه القصيدة بهذه الرؤية ومن خلالها في التحليق في فضاء اللحظة وإيصال رسائل الحياة والإنسان.
■ وبم تفسر احتفاءك بالموت لدرجة لا يخلو معها ديوان لك من قصائد عن الموت؟
□ ترتبط قصائد الموت برؤيتي المتصوفة… والحقيقة أن المتصوفة كانوا يخافون الموت، كما يبدو لي من قراءتي لهم؛ لأنهم كانوا يريدون أن يُخلّدوا في الحلول في الذات الإلهية، والحلول بمعنى الخلود، وأنا أنظر إلى الموت باعتباره مرحلة من المراحل الحياتية لابد من مواجهتها إبداعاً باعتباره الخلود الحقيقي… ولهذا السبب كان الخلود حافزاً من حوافز هذه الكتابة.
■ في ديوانك الخامـــس «الديوان الغربي للشاعر الشرقي» هل نجحت في التهاجد الوجداني مع الشاعر الألماني جوته من خلال ما لقيته من ردود فعل عقب ترجمة ونشر الكتاب؟
□ ما لفت نظري إلى جوته أنه أتى وألمانيا مقسمة إلى أكثر من ثلاثمئة ولاية، واستطاع الشعب الألماني أن يتوحد، وكان الشعر الألماني قد اعتوره انحطاط حتى جاء جوته، ومن ضمن تجاربه الكبيرة كان انصرافه إلى الشعر الشرقي في «الديوان الشرقي» معبراً فيه عن تقديره لثقافة الشرق، خاصة العربية منها والإسلامية؛ وهو ما أثرَّ فيّ، وأردتُ أن استلهم التجربة وأردُّ الجميل لهذا الشاعر؛ فكتبتُ هذا الديوان إيقاعاً على شرقيات جوته، ونشرتُ الجزء الأول منه مترجماً للألمانية، واعتقد أن في قصائده من الرؤية والجمال الشعري، كما أزعم، ما يجعلني أقول إن تجربتي سارت في الاتجاه الصحيح.

قراءة القصيدة

■ في الأخير؛ كيف صرت تنظر إلى القصيدة مقابل ما سبق وكتبته عن قراءة القصيدة وفك أسرارها… هل نتحدث عن قصيدة خاصة وقارئ خاص؟
□ لا؛ يجب أن نسعى إلى أن تكون القصيدة ملكاً للناس أجمعين. النص الشعري لابد له أن يتضمن معنىً قابلاً للفهم، لكن التعبير بالشعر له أساليبه الفنية الخاصة، التي تُلقي عليه ظلالاً من الجمال والبهاء، وهي ذاتها التي توحي إلينا بما وراء النص من حكمة أو فضيلة يستحيل التعبير عنها بلغة العقل أو البرهان. وهنا يمكن التأكيد على أن قراءة القصيدة هي قراءة خاصة تختلف كل الاختلاف عن قراءة النصوص غير الشعرية، بسبب ما يفرضه فن الشعر من تكثيف في القول وانزياح بالكلمة عن معناها، وبسبب أن التعبير فيه يعتمد على الإيماء والتصوير. إن قراءة القصيدة عملية إبداع ثانية؛ لذلك فلابد أن يتسلح لها القارئ أولا بمعرفة كافية، لا أقول باللغة بل بأساليب الشعر وتتبع تطورها المستمر، بالإضافة إلى الاستعداد النفسي لقراءتها؛ فإذا ما توجهت روح القارئ إلى القصيدة وهي صادقة الحب ثم وهبتها القراءة الحميمية؛ فسوف تبوح القصيدة بأسرارها.

(القدس العربي)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى