الشاعر الأردني عمر شبانة يروي في جديده سيرة لأبناء الورد

علي جعفر العلاق

في مجموعته الشعرية الجديدة “سيرةٌ لأبناء الورد، الدار الأهلية، عمان، 2017” لا يروي الشاعر عمر شبانة سيرته منفرداً، بل يروي سيرة جماعية، يمنحها العنوان أكثر من دلالة. فهي، في واحدة من دلالاتها، سيرة لأبناء القسوة الذين هذب العذاب قلوبهم فأمطرها بالرحمة، أبناء عروة بن الورد، شاعر الصعاليك وأميرهم، كما يصرح بذلك الإهداء الذي يتقدم القصائد.

وقد يذهب العنوان بإيماءاته إلى منحىً آخر، لا يقع بعيداً عن الأول، لكنه بمثابة وجهه الثاني، حين لا يكون الورد اسمَ علم، بل أجملَ عطايا الطبيعة، وهبتها المفعمة بالعطر والطراوة والأنوثة، التي تتصل بحقل دلالي زاخر بالمعاني والتداعيات.

ولعل أولها، فيما يتعلق بالعنوان، هي أنها سيرة الشاعر وسيرة إخوته الشعراء، أبناء الورد، الذاهبين بعطر أبيهم إلى أصل الأشياء ليمنحوها اللين بدل القسوة والبوح الحميم بدل الخرس.

وبذلك فإن دلالتي العنوان لا تتصادمان، بل تلتقيان في إناء واحد. المجموعة تتوجه بقصائدها إلى أبناء الورد، بدلالتيه الإنسانية والطبيعية، الذين رضعوا من شظف العيش ومن ليونة الورد معاً، فحفلت قصائدهم بميراثهم من وعورة الحياة ويناعة الروح.

واللافت للنظر أن في الإهداء توسيعاً لفضاء العنوان وإغناءً له، فإذا كان عنوان المجموعة يكرس الحاضر من خلال سيرة الأبناء، فإن الإهداء يتجاوز ذلك إلى المستقبل، إلى أحفاد عروة بن الورد لا إلى أبنائه فقط: “إلى معشر الصعاليك، أحفاد عروة بن الورد، أبناء الحياة.. الحرية والحب والجمال”.

تمتزج، في هذه القصائد، بهجة الذات ومحنتها بعذاب التاريخ وزهوه، دون أن تفقد القصيدة صبرها فتذهب، هنا أو هناك، إلى الصراخ، المنغلق على ذاته. وكان هناك خيط من الغناء الذكي والحميم يتمدد بأناقة صافية مخترقاً كيان القصيدة ومانحاً إياها نقاء رعوياً يجمع بين الحميمية والذكاء معاً.

يقولُ الشاعرُ الراعي:

 

ولدتُ وفي فمي نايٌ،

ألقّطُ من رياحِ الأفقِ أحرفَهُ

أجمّعُها، ألمّعُها، ألحّنها،

وأعزفُ للخرافِ نشيدها عُشْبا

لتتْبعَني، وتألفَني، وآلفَها،

فتدخلَ بيتَ شعري

دونما خوفٍ ولا وجلِ..

أنا ابنُ الشاعرِ الراعي.. بلا خجلِ

ولم يكن انشغال القصيدة بالسيرة الموغلة في الورد ليصرفها عن الإصغاء إلى محنة المصير العام المكلل بالدم والشتات. بل على العكس من ذلك تماماً، كان الوطن يرتبط بكل شيء في هذه المجموعة، بالثوب، والاسم، والناي، والمحبة، والموت، والندم، وما عَلِقَ بتاريخنا من دم وانهيارات وأعراسٍ ومن أملٍ عصيٍّ على الموت:

في ثوبها

أمي وجداتي

إلهتيَ الوحيدةُ.. عشتروتْ..

في ثوبها

أنا كائنٌ من ياسمينٍ

وابنُ نعناعٍ

وجذرٍ لا يموتْ..

وكان التفات عمر شبانة إلى الإيقاع والطبيعة والموروث الشعبي أو الموروث الشعري الرفيع يمثل نوعاً من الإيماء المخاتل، بالمعنى النبيل للكلمة، الذي يغذي القصيدة بالحنين من جهة ويفتح أنهار الكلام على بعضها البعض، من جهة أخرى، في لوحة دلالية وإيقاعية مؤثرة. ومع أن عنوان الديوان يوحي بجماعية التجربة من جهة وبانتمائها إلى أبي الصعاليك من جهة أخرى، فإن قصائد الديوان تؤكد التحام الفردي والجمعي، وتؤكد أيضاً اتساع دلالة الأب وتشظيها في ذوات كثيرة، في الأم والجد والجدة والحبيبة وفي شعراء الماضي أيضاً:

 

أنا ابنُ اسمي

وجدّي بيتُ أسمائي

وجدّي بئرُ أسراري و.. أخطائي

يسمّيني الحطيئةَ والفرزدقَ

أو يسمّيني امرأ القيسِ

 

المليكَ التائهَ الضلّيلْ

وهكذا نلتقي في قصائد هذه المجموعة، المكتوبة بأناقة ومحبة، بسيرة فردية وعامة، لأبناء الورد وهم يدافعون عن تفرد أبيهم، الرحيم العنيد المنتمي إلى جمرة التراب، وهو يتعرض للهلاك، عن الجمال الخاص حتى لا يتنازل عن مجده، عن الوطن حتى لا يتحول إلى ذكرى، وعن الذكرى حتى لا تغدو بديلاً عن الوطن.

(العرب)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى