لطيفة باقا تبني قصصها بالتجريب اللغوي

محمد العناز

تعد القاصة لطيفة باقا صوتاً متفرداً يتميز بخصوصية فنية لافتة في الكتابة السردية. ولا يخفى هذا التميز عن الباحث الذي يملك تجربة في القراءة، كما لا يخفى عن القارئ العادي، وبالتالي فهي تشكل إضافة نوعية في مشهد القصة القصيرة في المغرب عامة والكتابة النسائية بصفة خاصة. وإذا أردنا تلمّس هذا التميز الجمالي ذي النكهة الخاصة في مجموعتها القصصية «منذ تلك الحياة»، فيمكننا دراسة العمل من زاويتين: المادة القصصية والبناء الفني.
في ما يخص المادة القصصية، لا بدّ من القول إنّ القاصة تكتب هذه المجموعة عن الحياة، بل لا تكتب إلاّ عنها. تلك الحياة التي تبدو في مظهرها- للوهلة الأولى- مألوفة لدينا، لكننا نكتشف فجأة أن الأمر ليس كذلك. وراء ذلك المظهر العادي يكمن عمق يُعطي نفسه من خلال رؤية فنية متميزة، ومن خلال مقدرة سردية غير مألوفة. فالقاصة تقدم موضوعها من خلال تفكيكه تدريجاً إلى عناصر محددة، وتترك هذه العناصر تجتمع مرة أخرى وفق زاوية معالجة جمالية معينة. وتقوم هذه المعالجة الجمالية على تتبع التحولات التي تلحق بالموضوع من خلال لقطات زمنية مختلفة. ولا تخضع هذه التحولات لترتيب متعاقب تتوالى فيه اللحظات متتابعة كما تحدث في الزمن العادي الكرنولوجي.

رؤى وأفكار
تبدو هذه التقنية الجمالية واضحة في قصة «آيِلاتٌ إلى الخيبة»، التي تضعنا مباشرة ومنذ الجملة الأولى أمام جنون زهيرة بوصفها تحولاً في مسار حياة امرأة. ثم يتوالى القص ليعود بنا إلى لحظات حياتها كما هي قبل إصابتها بالجنون. لكنّ هذه العودة تُبنى بحسب بناء مُتدرِّج، ويتخلل هذا البناء الفني الذي يستهدف تحول الموضوع تقاطعُه مع حياة الأنا التي تتكلف بالسرد، وحيوات أخريات لهن علاقة بالشخصية- المرأة التي تعتبر موضوعاً للحكي. ولا بد أن نشير إلى أن هذا التحول يُقدَّم من خلال انشغال الساردة الخاص (حياتها، أفكارها، رؤاها…)، وجعل هذا الانشغال مبنياً من زاوية ملاحظات مستقاة من المحيط أو السياق الاجتماعي. قد نلاحظ التحول ذاته في قصة «لأن الوجود كان أضيق من أن يتسع لروحها». فالموضوع يبدو على أنه مسألة جسد، ومسألة تحوّلٍ يلحق به، أي تحول من إحساس المرأة- التي هي الساردة- بتملك جسدها إلى الإحساس بفقدانه. لكننا نكتشف في ما بعد أن هذا التحول هو مجرد مظهر، إذ تنحو القصة إلى حكاية تحول آخر، وهو المرور من تجربة الحب القائمة على الحرية إلى تجربة تحول الكائن- المرأة إلى بضاعة تباع وتشترى. ومن ثمة فهي تفقد بذلك حريتها الخاصة وتصبح مرتهنة بالآخر الذي هو امرأة أيضاً، ولكن من دون ملامح محددة في القصة، والتي يمكن نعتها بالقوادة.
وكما في القصة الأولى يمرّر الموضوع من خلال انشغال خاص، لكنه هذه المرة ليس بانشغال ساردة منفصلة عن الشخصية، بل انشغال الشخصية نفسها التي هي ساردة. وهذا الانشغال لا يتمثل في أفكار أو رؤى، وإنما في الذاكرة التي تؤرق الشخصية، وتجعلها تستعيد لقطات من حياتها (الغرفة، المدارس الشعبية…) ومن خلال هذه الاستعادة تبني ذاكرة فقدان الجسد.
إن موضوع الجسد هذا يستعاد في قصة عنوانها «منذ تلك الحياة»، لكنها استعادة لن تبنى على التحول من امتلاكه إلى فقدانه، وإنما من خلال فقدان اكتماله، والمقصود بذلك ما يتعرض إليه الجسد من نقص (سرطان الثدي، وفقدان الساق، اليدان غير الجميلتين…). لكنّ هذا النقص منظور إليه من زاوية تقابل حياتين: حياة الطفولة، وحياة الكبر؛ وبالتالي يعرض زمن الحياة الأولى من خلال زمن الحياة الثانية، ويعرض من خلال الرغبة في الفهم، فهم ما جرى بوصفه تحولاً. فالسؤال الذي توجهه الشخصية المرأة الساردة إلى صديقتها وردية «لماذا تكرهينني؟» لا يستهدف فهم شعور مستديم لدى الصديقة وردية، وإنما يستهدف فهم التقابل بين الحياة التي كانت والحياة التي هي جارية في زمن الكبر بما هو زمن تشوه. وهذا التشوه يعبر عنه بإصابة نعيمة بسرطان الثدي. ويستخدم السرطان هنا بوصفه رمزاً للدلالة على التحول المفضي إلى فقدان ما هو دال على الحياة نفسها، وعلى المرأة من حيث هي كيان ووجود.
في قصة «أطفال أقل» نلتقي مرة بالتحول كما تبنيه القاصة بنوع من الجمالية الفاتنة ومغايرة. التحول يتعلق بالحرب، وما تخلقه في النفس والمكان معاً من تحولات مريعة. ولكن لا تقول القاصة هذا التحول من خلال حبكة ما، وإنما من خلال لقطات: لقطة الطفلين- الطفلة والطفل، لقطة بائع السجائر بالتقسيط، لقطات المرافقين للساردة، ولقطة المنظف… وبالتالي يمنح التحول نفسه هنا في هيئة آثار متبقية من الحرب، وهذه الآثار تمنحنا علامات على مدى انتقال الوضع من حال إلى أخرى، من حال الطفولة البريئة المنشغلة باللعب إلى حال الطفولة التي كبرت قبل الأوان، ولعلّ عنوان القصة «أطفال أقل» يشير إلى ذلك.

البناء الفني
لا يمكن معالجة الكتابة القصصية عند لطيفة باقا إلا من خلال التعالق الموجود بين صياغة الموضوع القصصي والبناء الفني، الذي يلعب دوراً مهماً في هذه الصياغة، إذ يمنحها الأسلوب المناسب الذي يتلاءم معها، ويكسبها الملامح الخاصة بها. وأول ما يستوقفنا في هذا الباب هو صياغة العنوان «منذ تلك الحياة»، وهو عنوان القصة الأخيرة في المجموعة. هو عنوان يتشكل من جملة مفتوحة غير مكتملة؛ إذ يتساءل القارئ عما الذي حدث في المسافة الزمنية التي يؤشر عليها الظرف الزمني «منذ»، والذي من دلالاته أنه يحدد بداية صيرورة ما، أو فعل ما. كما أن هذه المسافة الزمنية مفتوحة، ولم تنغلق، إذ لا بد أن يعقب الظرف الزمني «منذ» تحديد المدة بواسطة حرف الجر «إلى»؛ أي لا بد من أن تكون العبارة على النحو الآتي «منذ تلك الحياة إلى…».
هذه تقنية لا تقتصر على بناء العنوان، بل هي تقنية منتهجة في بناء الجملة السردية أيضاً داخل القصص، كما هي الحال في الجملة الآتية: «تلك التي كان الوجود أضيق من أن يتسع… كانت تعتقد… أن…»، وهذه الجملة واردة داخل قصة «لأن الوجود كان أضيق من أن يتسع لروحها». فعدم اكتمال العنوان وبعض الجمل السردية تكمن الغاية منه في جعل القارئ مشاركاً في تخييل أجواء القصة، بما يجعل منها عالماً ممتداً في مخيلة القارئ.
ويوازي هذا الاستعمال المخصوص في بناء العنوان، والجمل المفتوحة غير المكتملة أسلوب في بناء الجملة السردية يمكن لنا تسميته بالأسلوب البرقي، وهو أسلوب يتصف بالكثافة القائمة على الإيجاز، وعلى تقديم العالم القصصي أو المروي من خلال لقطات مكثفة تجمع أحياناً بين الرؤية البصرية الخاطفة والسؤال من دون اعتناء بإجابة محددة.
ولعلّ خاصية فنية من هذا النوع تجعل من العالم عناصر تنبثق فجأة من دون توقع مسبق، وكأن العالم هو مجرد لعبة من الكلام. ويظهر هذا الأمر جلياً في بدايات بعض القصص التي تتخذ طبيعة الخلاصة التي تركز في داخلها الحكمة والتأمل. وتكفي العودة إلى القصة الثانية من المجموعة لنفهم ذلك، فالقاصة تبدأ بالجملتين «كنت أعتقد، إذن، أنني أبدأ بالضبط من حيث ينتهي العالم»، «كنت أنتظر كما يمكن لقطرة ماء أن تنتظر داخل حذاء مبلل في ليلة باردة».
هاتان الجملتان، مكثفتان، وتعبران عن تأمل في الحياة، وعن وضع شعوري، لكنهما منفتحتان على دلالات متعددة، وفي الوقت ذاته تفتحان أفق انتظار القارئ على احتمالات متعددة في ما يخص النص القصصي المقترح عليه. وقد نستنتج من هذا الأسلوب أن القصة وعالمها عند لطيفة باقا ينبثقان معاً من اللغة، ويعودان إليها. فالسرد عندها ليس مجرد رواية حدث فحسب، ولكنه أيضاً كلام يسعى أن يكون شبيهاً بقوة الحدث نفسه. وما دامت اللغة تحتل عند القاصة أهمية بالغة فإن الكثير من الصياغة السردية تتسم عندها بالبعد الشعري، ولهذا نجد الكثير من العبارات المجازية والاستعارية وكذلك التشبيهات تخترق نسيج الكتابة عندها. فالحدود بين أصناف اللغة في الطريقة التي تكتب بها لطيفة باقا تتداخل لتشكل أسلوباً يمتد من اللغة الراقية (الشعر والتأمل) إلى اللغة العادية التي تغرف من العامية أحياناً. يضاف إلى ذلك الاقتصاد في الجمل السردية، وبوصل بين أجزاء القص بتكرار لازمة ما كما الحال في القصة الثانية من المجموعة؛ إذ يضطلع تكرار فعل «أتذكر» بالوصل بين أجزاء القصة التي تتأسس على شكل لقطات.
وما يميز المجموعة في هذا الإطار اعتماد أسلوبها على الوصف الدقيق الذي يأتي في شكل جمل قصيرة، لكنه يتصف بطابع خاص، إذ يكتسب وظيفة الكشف المفاجئ عما وراء المظهر العادي للأشياء. لا يمكن النظر إلى الأسلوب الذي تكتب به لطيفة باقا خارج نزوعها نحو التجريب، فكل قصة تشعرك بأن الكاتبة تسعى إلى البحث عن شكل جديد، ولا ترغب في تكرار نفسها، لكن ما يجعل تجربتها تكتسب وحدة ما، هو كونها تدمر الحكاية، ولا تتبنى أسلوباً خطياً في سرد العالم الذي تقدمه إلى القارئ. ولا تسعى إلى إيجاد روابط منطقية بين الأجزاء، إنما تبحث عن روابط لغوية. وداخل هذه الوحدة القائمة على تدمير الحكاية نلحظ جهدها الملحوظ في التنويع، والتجديد. فالكاتبة تحاول محو الحدود الصارمة بين الخيالي والواقعي، ما يسمح لها بالاغتراف من السوريالية، وبتوظيف السخرية السوداء، واعتماد الرمز في صياغة موضوعها.

(الحياة)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى