على هامش الأضحى: كباش وكلاب وقطط

منصف الوهايبي

الذبيح: إسماعيل أم اسحاق؟… الكبش رمز الموت صورة التيس عند الإغريق، إذا دخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار؛ جيء بالموت، كأنه كبش أملح، فيوقف بين الجنة والنار ثم يذبح، ويقال: يا أهل الجنة خلود بلا موت، ويا أهل النار خلود بلا موت، فيضجع فيذبح، ويضجّ أهل النار بالعويل، مات الموت إذن، ولا أمل في الخلاص من هذا الجحيم،
على أنّ المسلمين اختلفوا في الذبيح: أهو اسماعيل أم اسحاق؟ وهم يختلفون في كلّ شيء، كما هم اليوم وأمس وغدا، واختلافاتهم لا تُغسل إلاّ بالدم، حتى في الذبيح،.
قال عمر وعلي وابن مسعود والعبّاس وقتادة والطبري وغيرهم: هو إسحاق. وكانت حجّتهم أنّ القرآن ذكر البشارة بإسحاق بعد أن فرغ من قصّة الذبيح، بل هناك حديث للنبي رواه أبو هريرة « لمّا فُدي إسحاق بالكبش، قال الله عزّ وجلّ: إنّ لك دعوة مستجابة». وروى سعيد بن جبير أنّ ابراهيم رأى في المنام أنّه يذبح إسحاق، فسار به حتى أتى المنحر في منى؛ ثمّ أمره الله بذبح الكبش فذبحه. واحتجّوا بالآية «فبشّرناهُ بغلامٍ حليمٍ» وقالوا ليس في القرآن أنّه بُشّر بولد، سوى ما قال في سورة هود «وبشّرْناهُ بإسحاق». ولكنّ آخرين قالوا إنّ الذبيح هو إسماعيل، واحتجّوا بأنّ القرآن ذكر البشارة بإسحاق بعد الفراغ من قصّة الذبيح. ورووا أنّ عمر بن عبد العزيز سأل رجلا من علماء اليهود كان قد أسلم «أيُّ ابنيْ إبراهيم أُمِرَ بذبحه؟» فقال:»إسماعيل»، وأضاف:» إنّ يهود لَتعلمُ ذلك، ولكنّهم يحسدونكم يا معشر العرب على أن يكون أبوكم الذي أمر الله تعالى بذبحه؛ ويزعمون أنّه إسحاق أبوهم.» واستدلّوا في هذا المخيال الإسلامي، بأنّ قرنيْ الكبش كانا مَنوطين بالكعبة؛ إلى احترق البيت واحترق القرنان أيّام الزبير والحجّاج.
وعلى كلّ فجدّنا إبراهيم لم يشتر كبشا، بل فداه الله بذبْح عظيم،. كبش من الجنّة، رعى فيها أربعين عاما، وهو الكبش الذي قرّبه هابيل فتُقِبّل منه.
قال ابن عبّاس» لو تمّت تلك الذبيحة، لصارت سنّة؛ ولذبح الناس أبناءهم». ولكن ها هي أنظمة وتنظيمات ودول تتكفّل بذبحهم.

حتّى لا يختلط الأمر على الملائكة

عام 2009 لا أذكر من تلك اللّيلة، ليلة العيد؛ وأنا أقطع الطريق إلى بنزرت، وقد حاصرتني الأمطار وتقطّعت بي السّبل، والسّيّارة تطوي الطّريق طيّا؛ إلاّ صرير العجلات على الحاشية، وصوتا يذهب ويجيء كالصّدى ورَجْعِ الصّدى: «يا أخي، هل تسمعني؟ يا أخي، هل تسمعني؟»؛ وأنا أجيب في داخلي: «أسمعك، أنا أسمعك»؛ والصّوت الذي يناديني لا يسمعني، ويقول لمن حوله: «يبدو أنّه مات! حتّى قلبه لا ينبض»؛ قلبي كسول بطبعه، يكاد لا ينبض! المطر الغزير ظلّ يهطل بدون انقطاع يومين متوالين، حتّى غمر الماءُ الطّرقاتِ والأرصفة، وغطّى على الزّهور الصّغيرة، وقد بدأت تمدّ أعناقها للنّور؛ وثمّة قطّان اثنان، حاصرتهما المياه، وهما فوق سور الحديقة، يذهبان ويجيئان يبحثان عن منفذ آمن إلى اليابسة، وليس على الأرض يابسة؛ القطّان، أنثى وذكر؛ كيف عرفت ذلك؟ جاري في النّزل، في الغرفة المجاورة، طبيب بيطري غريب الأطوار، يقرط لكلّ ذَكَرٍ أُذنَه اليمنى، ولكلّ أنثى أُذنها اليسرى، ويقرط الاثنتين إن شكّ في الجنس. فلمّا سألته عن الحكمة من ذلك، تبسّم، وقال برصانة العالم وحكمته: «لقد لاحظت أنّ الأمر اختلط على القطط، فصار الذّكر يخلو إلى الذّكر، والأنثى إلى الأنثى، ففعلتُ ما فعلتُ،لأدلّها؛ هل تفهمني؟». ولم يكن في النّزل إلاّ زبونان اثنان، أنا وهو؛ يقف على شأننا نادل، يقسّم وقته بين المطبخ والحانة؛ طعامه لذيذٌ، لذيذ، حتّى أنّي كنت أعدّ أصابعي بعد كلّ وجبة؛ وشرابه ألذّ وألذّ، حتّى أنّي كنتُ الوقتَ كلَّه، بليله ونهاره، صحوا، صاحيا؛ وأنا أسأل:«لماذا لا يرتاد السّياح هذه الرّبوع الجميلة؟»؛ والنّادل يجيب مستغربا:«ماذا قلت؟ ألا ترى أنّ كلّ الغرف عامرة؟» ويشير إلى الطّاولات حولي، وقد تناثرت فوقها الكؤوس والصّحون والملاعق، كأنّ القاعة خَلَتْ للتوّ من وليمة صاخبة؛ وذهب الصّوت وبقي الصّدى:«لقد مات»؛ وصوت امرأة تسأل:«وماذا نفعل الآن؟»؛ والصّدى يرجع:«سوف أقرط أذنه اليمنى»؛ والمرأة تسأل:«ماذا قلت؟ ما دخل أُذُنه في حياته ومماته؟» والصّدى يرتدّ:«حتّى لا يختلط الأمر على الملائكة».

كانت الساريتان أوّل طريقنا إلى الجنّة

في أواسط الثّمانينيات من القرن الماضي، كنت أتردّد على مكتب أخي المهندس المعماري الصحبي الوهايبي في تونس. كان للصحبي صديق اسمه محمّد شعبان، يمرّ كلّ ظهر، فيجلس حينا، فإذا بلغه صوت الأذان من جامع الفتح، نهض وهو يقول: «يا صحبي، ألا تأتي لنصلّيَ معا؟» ـ ويلتفت إليّ شزرا ـ والصحبي يقول مازحا جادّا: «يا محمّد، سأصلّي وياسر عرفات، في القدس معا». قال الصحبي، أتذكّر يا منصف، ونحن صبيّان يافعان، وأنت تقول لي: «هل تعرف يا ولد أنّ في جامع عقبة بن نافع ساريَتَيْن متلاصقتيْن، لا ينفذ من بينهما إلاّ مؤمن من أهل الجنّة؟»؛ وأنا أدوّح برأسي: «احكِ حكايتك لبهلول غيري». فلمّا رأيت أنّي حسمت أمري مكذّبا، وكنت عنيدا على صخب، وكنت أنت عنيدا على صمت؛ أخذتني صبيحة الأحد إلى صحن الجامع، وأشرتَ إلى ساريتيْن لا تختلفان عن باقي السّواري، وقلت: «هل تريد أن تجرّب؟»؛ ودلفت أنت بينهما، فمرقت، وأنت تصيح مزهوّا : «أنا، دَائمَا في الجنّة»، وظللت تدخل وتخرج، وأنت تستفزّني: «هاه، ماذا قلت يا ولد؟ أنا أدخل الجنّة متى أشاء، وأخرج متى أشاء، هل تجرّب، أيّها الرّعديد؟ حتى الجمل ينفذ»؛ فطلعت الكلبة بنت الكلب إلى رأسي، وكنت على أيّامها نحيفا مثل عود كبريت؛ فحشرت جسدي الهزيل بين السّاريتين، فلم أنفذ، وإذا أنا عالق بينهما، كأنّهما أطبقتا عليّ؛ وأنت يا منصف تنادي: «هات يدك يا ولد! ولا تبك»؛ وأطلقت لساني بالسّباب والشّتيمة؛ وأنت تهمس: «اخفض صوتك! وهات يدك ودعني أخلّصْك.» كانت الساريتان أوّل طريقنا إلى الجنّة.

كلاب مقطوعة الذيل

2006، ذلك، في الأعوام، عام غريب، فقد اجتاحت الكلاب الشّاردة المدنَ والقرى، وباتت تستوطن الطّرقات والسّاحات، بدون حسيب أو رقيب، والنّاس يتحاشوْن ويتسلّلون إلى بيوتهم على أطراف الأصابع. وكان في دشرتنا «عين مجونة» رجل من أهلنا استوطن سفح جبل «الطّويلة» ووقف جهده ووقته على تربية النّحل. في صائفة 1967 عضّه كلبٌ شارد، لا أحد يدري من أين وَرَد، فالكلاب في الرّيف تُنسب إلى أهل البيت؛ فهذا كلب بيت جلّولي، وهذا كلب بيت نصر، وهذا كلب بيت الشّيخ. وليس في الرّيف كلب شارد أبدا؛ ولكلّ كلب، زريبة يحرسها، فلا يتعدّاها ولا يأبه بغيرها؛ وأبي يلحّ، مازحا أو جادّا: «يا عمر، لا تستهن بالأمر، ربّما يكون كلبا مسعورا، الأحسن أن تراجع الطّبيب». وأغرب ما رأيت في الكلاب، كلب عليّ السّاسي، وعليّ السّاسي قريب لنا استوطن مدينة تونس نهاية الحرب العالميّة الثّانية، ولعلّه أوّل من هاجر من أهلي إلى هناك، فأخذ معه كلبَه، وجدّي يقول له: «يا عليّ، هذا كلب بادية، وليس كلبَ مدينة، ولن يجد فيها صاحبا أو صاحبة، وستقتله الوحدة و الوحشة». وصدق جدّي كما روى لي والدي، فلم يلبث المسكين في تونس إلاّ شهورا قليلة، حتّى هزل لحمُه ونسل جلدُه، وقد حاصرته الحيطان من كلّ جانب، وسدّتْ عليه منافذَ الشّمس والرّيح، فعاد به صاحبه إلى دشرتنا، عساه يموت معزّزا مكرّما، بين أهله وذويه. وكان الكلب قد فَقَدَ ذيْله في معركة لم يخضْ غمارها، ولم يكن فيها إلاّ متفرّجا؛ فصار، النّهار كلَّه، يدور على نفسه، باحثا عن ذيله، فإذا رأى الكلاب تبصبص بذيولها، بات مهموما مغموما. حتّى أصبحت الدّشرة ذات صباح، فإذا كلّ الكلاب مقطوعة الذّيل. وذهبتْ بالنّاس الظّنونُ والشّبهات، حتّى استقرّ يقينا لا يتزحزح أنّ صاحب الفعلة هو ذلك الكلب النّازح العائد.
وصعدتُ مع الرّجل إلى بيته عند سفح الجبل، أجلب لأبي جرّة العسل؛ فأكلتُ عنده وشربت؛ وهو يودّعني إلى خارج الحقل، يقول لي: «سي مختار يبالغ، العضّة جلديّة، خدش بسيط، والكلب ليس مكلوبا». وكان ذلك، آخرَ عهدي به، فلم تمض إلاّ أيّام حتّى مات، وأصابني لموته غمّ كثير، والهادي ابن عمّي يقول: «ما أظنّك تعيش بعده طويلا، فقد ذهبتَ إلى بيته، وتنفّستَ هواءه، وشربتَ ماءه، وقاسمته طعامه، ولعلّكما تداولتما الملعقة ذاتها؛ وكان النّاس في الرّيف أيّامها يأكلون بأيديهم، فإذا نزل عندهم ضيف، بجّلوه وأفردوه بالملعقة الوحيدة في البيت. ولم أمتْ، ولكنّ الهادي يقول لي، كلّما رأى فوراتِ غضبي: «يبدو أنّ العدوى ظلّت تسري في دمك، بدون أن تقتلك!»؛ ورسخ اليقين، كانت أمّي على حقّ، فأنا عصيّ على الموت، وقد لا أموت أبدا.

(القدس العربي)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى