أنكيدو يواجه جلجامش في قصائد حب عراقية جديدة

عبد الناصر عيسوي

“أهـز النسيان” عنوان ديوان جديد صدر في القاهرة، للشاعر العراقي الرحالة باسم فرات. يضم الديوان واحدًا وأربعين نصًّا نثريًّا، كتبت نصوصه ما بين العامين 2013 و2016، في أماكن متعددة من العالم؛ حيث ارتحل الشاعر ما بين العراق والأردن ودبي والبحرين وقطر والسودان والإكوادور ونيوزيلندا.

 

قتيل الغرام

رغم تعدد الأمكنة التي يترحل بينها، يستحضر الشاعر بلده العراق من خلال أكثر من نافذة، ويظهر هذا في عتبات بعض القصائد، حيث نجد عناوين مثل “خيبة جلجامش”، “أُذينة بن خيران”، “جلجامش يعبر الأنديز”، “أُغريهنَّ بأساطير بابل”. والمطلع على شعر باسم فرات السابق يعثر بسهولة على هذا الملمح، لكن الجديد في هذا الديوان أن الشاعر الرحالة الحزين طرق باب الحب، الذي هو أوسع أبواب الشعر العربي، في عصر الحزن العربي، لعل الحب يمسح تلك الأحزان.

يستعمل الشاعر العاشق مفردات متنوعة في التعبير عن الحب من قبيل معجم قتيل العشق الذي توارثناه، أو قتيل الجمال، الذي يعبر عن الحالات القُصوى للحبيب حين يتمكن منه الحب. ففي قصيدة بعنوان “قتيلٌ تورَّط في النظر إليك”، يذكر فيها الشاعر “الرازقي” -وهي التسمية العراقية لزهرة الفُلّ- كما يرسم بعض الصور الجمالية المعبرة عن حالة العشق لجمال المحبوبة، مهووسًا بها؛ بصوتها وبالنظر إلى خصلات شعرها وضفائرها.

ولعل هذا الحب يمنحه الأمل وينجيه من الاغتراب الذي أحدثته الحروب، حيث يبدأ القصيدة بقوله: “على ذِكرَى صوتِكِ يسكرُ الرازقيُّ/ وفي أحضانِ الأمَلِ يتنفس الشاعرُ حُلم اللقاء/ تتلكأ أوتارُ العاشِقِ/ حين تبكي الريحُ في خصلات شَعرك/ وأنا أحدِّثُها عنكِ/ أجمعُ دموعَ غاباتٍ خبَّأتني من الحروب”.

لقد عثر الشاعر بالفعل على ما ينجيه من اغترابه، وهو الحب، فكان لا بد له من الوصول إلى منابع الحب، حيث يختم قصيدته بقوله: “ثمة نبعٌ لا يصل إليه إلا قتيلٌ تورَّط في النظر إليكِ/ أحفِرُ الأنهارَ/ وإزميلي هوَسٌ يُغرقُ سفينتي”.

تعامل الشاعر مع الحب بوصفه أحد طرفي الثنائية الجدلية “الحب- الاغتراب”، والتي لا بد أن تكون الغلبة فيها للحب، لأنه هو القادر على القضاء على الاغتراب. نجد ذلك في قصيدة بعنوان “فخ”، حيث يقول:

“سنواتٌ طويلةٌ وأنا في وَسَطِ النهر/ متوثبٌ كصقر للإمساك بلحظةٍ/ لحظةٍ تهرب منكِ فتنتعش حياتي/ أمحو بها سُخامَ يُتمٍ/ وعن ماضِيَّ ما علق به من قَتْلَى وقطران/ لكنني الآن قررتُ أن أعبر النهر/ غير آبِهٍ بشيءٍ/ … …/ لكني هل سأعبُرُ حقًّا؟/ أنتِ حُلمٌ أخشى أن يُصبح ذكرى”.

 

أساطير قديمة

استدعى الشاعر في هذه المجموعة الشعرية، أكثر من مرة، شخصية جلجامش، أو ملحمة جلجامش؛ ذلك الحاكم البابلي الذي عاش في جنوب بلاد الرافدين، وكان ملكًا على مدينة أوروك (الوركاء) في حدود العام 2600 قبل الميلاد أو قبل ذلك بقليل، وحكم مدة 126 عامًا.

أما الملحمة فقد تمت ترجمتها أكثر من مرة، واستفدنا من قراءة ترجمة نائل حنون عن النص المسماري ودراسته لها؛ حيث قامت الملحمة بتمجيد جلجامش لتفوقه في المعرفة والإعمار.

وأكدت على صلاحيته للمُلك وعلى لياقته البدنية والعقلية، ثم ذكرت وطأة حكمه على أهل أوروك حتى ضجوا بالشكوى، فحققت الإلهة/ الأم”أورورو” رغبة الناس في خلق نِدٍّ يضاهي جلجامش في القوة والبأس، فكان ذلك الندّ هو “أنكيدو” الذي تحداه.

 

وإذا كان شاعرنا باسم فرات مشغولاً بأساطير الشعوب التي زارها، ومندمجًا معها، وراصدًا لعادات تلك الشعوب وتقاليدها فإنه لا يزال يحمل أساطيره البابلية القديمة. بل إن وجدانه يختلط بوجدانهم وأساطيره تختلط بأساطيرهم، فنجد مزيجًا من الرؤية الأسطورية التي يبدو أنها لا تزال تعمل عملها القديم في التخفف من ضغوط الحياة ومتاعبها.

فإذا كان الشاعر قد ظهرت أساطيره بوضوح في قصائد مثل “خيبة جلجامش” أو “جلجامش يعبر الأنديز” أو “أغريهن بأساطير بابل”، فإنه قد توغل أكثر في قصيدته التي ختم بها هذه المجموعة الشعرية “مصارعة الثيران” ليستدعي جلجامش وأنكيدو معًا؛ من ملحمة جلجامش.

فعلى الرغم من أن الشاعر أراد أن يجعل من مصارعة الثيران معادلاً موضوعيًّا لما يعيشه إنسان هذا العصر، فإنه توغَّلَ في الملحمة، لتلبية احتياج الإنسان المعاصر الذي أرهقته صراعات القوة والدم إلى أساطيره التي يستريح إليها ويجد فيها ملاذه. يقول الشاعر في مفتتح قصيدته:

“البطلُ الذي نـزَّتْ أكُفُّ الجمهور/ إعجابًا بحركاته وتبختُره/ البطل الذي ملأ الأساطير/ راح يُلهب حماسَ المعجبين بسوطه/ اجتذبَ الثورَ وهو يضحك على ذقنه/ طعناتُه تُرَقِّصُ خمسمائة وعشرين كيلو غرامًا/ فتنهمرُ الجراحُ على قميصه،/ طعنات ورقص،/ رأيتُ الجحيم يحتضن الخرافة/ على حافة الألم، ذكرياتٌ ترعى في الحقول/ والدمُ شاهدُ عيانٍ أوحد”. ويعود الشاعر في نهاية القصيدة ليذكر أنكيدو، وتكتمل الأسطورة القديمة المعاصرة، فهي القديمة بأسماء شخوصها وبأحداثها الأسطورية، وهي المعاصرة لأنها انحرفت نوعًا ما عن نص الأسطورة، ولأن الشاعر وظّفها في إسقاط بعض صراعاتها على الواقع المعاصر، فيقول:

“رأيتُ نبوءاتٍ مقدسةً تنهَشُني/ وأساطيرَ تسحبُني إلى الهاوية/ حاولتُ أن ألُـمَّ دم أنكيدو، لكنَّ دُودًا وزعه بين القبائل/ فانهلتُ سِبابًا على صمتي/ هو الموتُ إذًا/ فكَّر الثورُ/ بينما تمر حيواتُهُ شريطًا مُزدَحِمًا بالخُذلان/ وأسدل ستارة الدم على المشهد”.

لقد اتخذ الشاعر من الحب قضية جوهرية، يمكن أن تعين الإنسان على القضاء على اغترابه، واستعان بأساطيره وبأساطير الشعوب التي زارها، ليكشف لنا عن حاجة الإنسان المعاصر إلى أساطيره القديمة والمعاصرة؛ فقد تصلح للتعليق على ما يحدث وسط حلبة المصارعة الكبرى التي تُسمَّى الحياة.

(العرب)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى