غادة الإمام ترى أن فلسفة هيدجر تمثّل نقطة تحوّل جذري في تاريخ فلسفة الفن

محمد الحمامصي

تأتي أهمية هذا الكتاب “الفنّ والحقيقة في فلسفة هيدجر” للباحثة د. غادة الإمام في كونه يشكل دالاًّ على هيدجر قدم أسلوبا جديدا في معالجته للفنّ يسلك فيه اتّجاهاً مضاداً للفلسفات الجمالية السابقة عليه والمعاصرة له؛ فوفقا للباحثة كان الاتّجاه السائد منذ بداية القرن العشرين ينظر إلى الفنّ من جهة الاستطيقى، أي من جهة الجمال في الفنّ أو البعد الجمالي للفنّ. ولقد بلغ هذا الاتّجاه ذروته في النزعة الشكلانية في الفنّ، أي النظر للفنّ على أنّه صورة مُعبّرة فحسب، تكمن في القيم الفنية والتشكيلية للعمل. ولقد أدّت المغالاة في هذه النزعة الشكلانية إلى حالة اغترابية للفنّ أصبح فيها الفنّ منعزلاً عن وجودنا وعالمنا الإنساني. ومفتقراً إلى أي دلالة أنطولوجية، ومن ثم جاء تناول هيدجر للفنّ مقوّضاً لهذا الاتّجاه ومؤكّداً على أنّ الإبداع الفنّي تعبيراً عن حقيقة الوجود.

وأثارت الإمام في دراستها الصادرة عن الهيئة العامة لقصور الثقافة تساؤلات عديدة صياغها على النحو التالي: هل يمكن وضع الفنّ في علاقة ضرورية مع الحقيقة بحيث يشكّلان مبحثاً واحداً، وما طبيعة هذه العلاقة؟ وهل وضع الفنّ في علاقة ضرورية مع الحقيقة والوجود يعنى إبطال البحث في الفنّ من جهة الجميل في الفنّ؟ ومن ثمّ هل يصبح تناول هيدجر للفنّ في قطعية مع علم الجمال الذى يتناول الفنّ من جهة الجميل في الفنّ؟

ورأت أن محاولة فهم التساؤلات السالفة تكشف عن حقيقة معالجة هيدجر للفنّ، وإلى أي حد تعد إجاباته ومعالجته استطيقية، وقالت “أثار هيدجر فى مقالته عن أصل العمل الفنّي قضية الدور التاريخي للحقيقة في سياق مناقشته للفنّ؛ إذ يُعدّ الفنّ بالنسبة لهيدجر أحد الأساليب التي تحدث فيها الحقيقة. ومن ثمّ، أصبحت العلاقة بين الفنّ والحقيقة مسألة ملحّة لديه. فهيدجر حينما يطرح السؤال عن أصل العمل الفنّي، فإنّه يطرحه معتمداً على ذلك النحو، بحيث يستدعى الإجابات التقليدية والتأمّلات العقيمة في التفكير الجمالي التي كانت تدور حول عبقرية الفنّان والإلهام، ويعلّمنا ألاّ نفكّر بهذه المصطلحات، وأنّ نفكّر في الفنّ بدلاً من ذلك بوصفه أصلاً يعلن ويحفظ الحقيقة الماهوية لحقبة تاريخية. ولهذا، اتّجه هيدجر مباشرة لدراسة العمل الفنّي باعتباره ظاهرة معاشة باحثاً عن أصله”.

وتساءلت ما المقصود بالأصل هذا؟ وأوضحت إنّ الأصل هنا يعنى ذلك الذى منه، ومن خلاله، يكون شيء ما، ما يكونه وعلى نحو ما يكون. فما يكونه شيء ما – على النحو الذى يكون عليه – نُسمّيه ماهيته. فأصل شيء ما هو مصدر طبيعته، ومن ثمّ فإنّ السؤال عن أصل العمل الفني، هو سؤال عن مصدر طبيعته، ويعنى ذلك أنّه سؤال تفهم من خلاله طبيعة العمل الفني ابتداءً من العمل الفني نفسه فيما يكوّنه وعلى النحو الذى يكون عليه، أي من خلال أسلوبه الخاص في الوجود. وهذا هو المعنى الذي يفهم به هيدجر كلمة الماهية، التي لا تعنى ما يكونه الشيء فحسب، وإنّما الكيفية أو الأسلوب الذى يكون عليه الشيء أيضاً.

ولقد ارتدّ هيدجر فى فهمه هذا للماهية إلى أصلها الألماني القديم، حينما كانت كلمة الماهية تعنى Wesan التي تشير إلى تلك العملية ـ أي عملية الحدوث ـ التي يظهر فيها شيء ما، ويظلّ ويبقى على ما هو عليه. وهكذا، فالسؤال عن أصل العمل الفني هو سؤال عن طبيعة العمل الفني وأسلوبه الخاص في الوجود.

أما تلمس أصل العمل الفني، فأشارت أنه “وفقاً للنظرة الدارجة – كما يعتقد هيدجر – يمكن أن نلتمس أصل العمل الفني في الفنّان باعتبار أنّ العمل الفني هو مجرّد نتاج لنشاط الفنّان. ولكنّه يعود فيتساءل، بِمَ ومن أين يكون الفنّان فناناً؟ بالعمل الفني، وذلك يعنى أنّ العمل الفني هو المجال الذى يمكن أن نتعرّف فيه على نشاط الفنّان. وبذلك فإنّ الفنّان يكون أصلاً للعمل الفني مثلما يكون العمل الفني أصلاً للفنّان، فلا يكون أحدهما ما يكونه بدون الآخر ومع ذلك لا يستند أو يعتمد أحدهما بمفرده على الأخر. ولكن في ظلّ العلاقة المتبادلة بين الفنّان والعمل الفني يستمد كلّ منهما اسمه من عنصر ثالث ألا وهو الفن. وهكذا، فإنّ الفنّان هو أصل العمل الفني، والعمل الفني أصل للفنّان، والفنّ هو أصل للفنّان والعمل الفني على السواء، وهو الذى يمنحهم اسمهما.

وأضافت “لكن إذا كان الفنّ أصلاً لكلّ من الفنّان والعمل الفني، فكيف وأين يمكن أن نلتمس طبيعة ووجود الفن؟ لقد صرّح هيدجر فى مقالته أنّ “الفنّ لا يشير إلى شيء أكثر من مجرّد كونه لفظاً أو مفهوماً مجرّداً نشير به إلى مجموعة من الوقائع المُشخصة التي نلتقى بها في عالم الواقع حينما نشهد أعمالاً فنّية وفنّانين، وإلاّ لما كان في مقدورنا أن نتحدّث عن الفنّ أصلا. ويفهم من ذلك أنّ السؤال عن أصل العمل الفني يصبح سؤالاً عن طبيعة الفنّ نفسه، التي يستدلّ عليها من العمل الفنّي. ويعنى ذلك أنّ هيدجر يريد أن يرى ماهية الفنّ في العمل الفني، على أساس أنّ: الفنّ يكون حاضراً أو ماثلاً في العمل الفني، ولهذا سيتّجه هيدجر إلى أعمال فنّية واقعية، وسيدعها تكشف لنا عمّا تكون وكيف تكون”.

وحول رؤية هيدجر للعلاقة بين الحقيقة والوجود في إبداعية العمل الفني، أوضحت الباحثة إنّ هيدجر – في بيان الأسلوب الذي به يكشف العمل الفني عن الحقيقة والوجود – قد اختار أمثلة عديدة، أو من بينها مثال المعبد اليوناني كعمل فني، الذى يرى هيدجر أنّه لا يصوّر أو يمثّل شيئا خارجه، ومع ذلك هناك الكثير ممّا يمكن أن يقوله لنا هذا العمل الفني، فكما يقول هيدجر “إنّ المبنى ـ كمعبد من معابد اليونان ـ لا يصوّر شيئا، وإنّما ينتصب هناك في وسط الوادي المُشتقّ الصخور إنّ المبنى ينطوي في داخله على صورة أو شخص الإله، وهو في هذا التحجّب يجعله يظهر بوضوح في الفناء المقدّس من خلال الرواق المفتوح فبواسطة معنى المعبد يكون الإله حاضراً في المعبد”، ويعنى ذلك أنّه من خلال المعبد ـ كبناء معماري فني ـ يهبط الإله إلى الأرض، أي تنكشف حقيقة العالم الإلهي من خلال الوسيط المادي الذي فيه وعليه يتكشّف عالماً، والعالم الذي يتكشّف ويتفتّح هنا هو العالم الإلهي. ويعني ذلك أنّ المعبد يتيح للإله أن يظهر في حقيقته أو يحضر بنفسه كما يكون أو على النحو الذى يكون عليه. وهكذا،” فإنّ الأعمال المعمارية العظيمة تكشف عن شكل ما من أشكال الإيمان والعقيدة الإنسانية، كما تتجلّى في رؤية شعب ما، أي رؤية الإنسان للإله أو رؤية العالم الإلهي كما يتجلّى للإنسان” ومن ثمّ، فإنّ كلمات من قبيل “المحراب” و”المذبح المقدّس” و”قدس الأقداس”، أي “بيت الإله”، إنّما تشير إلى جلال شأن هذا العالم الذى يكون كذلك؛ فقط لأنّه قد نذر الله بواسطة عقيدة أو إيمان شعب، وعمل فنّان وهو سرّ الإحساس بالرهبة الذى يلازمنا عند مشاهدة وتأمّل دور العبادة، حيث يكتشف لنا فيها أسلوب من أساليب حدوث حقيقة العالم الإلهي، وبدون هذا المعنى الذي به يكون الصرح المعماري يرسي عليها عالماً يجسّده الفنّان، فإنّ الصرح المعماري لن يكون شيئا سوى كومة من الحجارة، أو متحفاً، أو مخلفّات أثريّة لأسلوب ماضي من الحياة، ويتّضح لنا ممّا سبق أنّ العمل الفني يكشف عالماً. فأن يكون هناك عمل فني، يعنى إرساء عالم”.

وخلصت د. غادة الإمام إلى أنّ “فلسفة هيدجر تمثّل نقطة تحوّل جذري في تاريخ الفلسفة بوجه عام وفلسفة الفن بوجه خاص، إذ أنّ جميع جوانب تلك الفلسفة تكشف عن المنحى الجديد الذى اتّخذه هيدجر لنفسه متجاوزاً كلّ فكر الفلاسفة السابقين عليه، كما تكشف عن أنّ تساؤلاته عن الفن والحقيقة والشعر واللغة والتفكير وسائر تساؤلاته الأخرى، إنّما هي تساؤلات قد انبثقت من مركزها الأصلي الذى يسأل عن معنى الوجود. فلقد كان تساؤله عن معنى الوجود هو السبب المباشر وراء رؤيته للفن والشعر والفلسفة كطرق يضاء من خلالها الوجود الذى يتجلى في أسلوب وجود الموجود بما في ذلك الوجود الإنساني، أو حتّى في أسلوب وجود الأشياء والموجودات اللا إنسانية، والتي يمكن أن تكشف عن عالم إنساني فقط من خلال لغة الفن. ولهذا، ينبغي النظر إلى العمل الفني على أنّه يقول لنا شيئا ما له صلة وثيقة بالوجود والحياة، حتّى لا نورّط أنفسنا في نزعة شكلانية متطرّفة تجرّد الفن من إنسانيته، ومن علاقته الحميمة بالوجود نفسه. بحيث لا يمكن اختزال الفن إلى مجرّد صياغة أو تشكيل جمالي خالص يخاطب متعتنا الجمالية. إذ أنّ للعمل الفني مضمونا وكثافة وجودية لا يمكن إغفالها.

فالفنّان عندما يبدع عملاً فنياً معيناً، فإنّه لا يخضع لما يتطلّبه التنفيذ التشكيلي فحسب، بل إنّه يريد أن يعبّر عن رؤية تقدّم حقيقة أو مضموناً أو دلالة معيّنة تتجلّى عند هيدجر في الدلالة الأنطولوجية. ولكن إذا كان من الضروري النظر للعمل الفني على أنّه يقول لنا شيئاً ما له صلة وثيقة بالوجود والحياة، فإنّ هذا لا يعني في نفس الوقت إغفال البعد الجمالي في الفن، والنظر للجمال على أنّه أحد الأساليب التي بها تحدث الحقيقة في العمل الفني. فلا يمكن إغفال القيم الشكلية للعمل الفني باعتبارها قيماً جمالية، كما لا يمكننا اختزال ماهية الفن في كونه تعبيراً عن حقيقة الوجود والحياة فحسب، إذ أنّ قدراً عظيماً من قيمة الفن يمكن في الأساليب التعبيرية ومتطلّبات التشكيل الجمالي أيضاً. فهيدجر بهذا المعنى نقل الفن من مجال المعنى التقليدي له، أي الاهتمام بالجميل في الفن، إلى مجال أنطولوجيا الفن، أي اهتمام الفن بالكشف عن معنى الوجود العام”.

(ميدل ايست اونلاين)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى