الثقافة العربية ومحاولة التقدم وسط ضجيج التغييرات

عثمان بطسان

لطالما اعتبر الأديب والكاتب المصري رؤوف مسعد الثقافة العربية على أنها في مأزق. فالثقافة، أي ثقافة كيفما كانت، لا بد أن تعكس الواقع الاجتماعي والسياسي والحياة اليومية، التي يتخبط فيها الفرد والمجتمع. فهي بالأساس رؤية جماعة محددة للكون وللطبيعة وما وراء الطبيعة.
إن تطور الثقافة العربية رهين بتجاوزها للأزمات التي تنطلق منها، ولكي يعرف العالم العربي هذا التطور عليه الاستفادة من التجارب الإبداعية التي سبقته، والتي لعبت دورا كبيرا في نضوج واكتمال مجموعة من الأنماط الفنية من قبيل الشعر والرواية والمسرح. إن الأدب العربي كجزء لا يتجزأ من الثقافة العربية، يعرف نوعا من التقدم والتراجع، كعملية المد والجزر. إنه أدب ثوري أحيانا، وأحيانا أخرى يميل إلى ما هو اجتماعي وديني. فالثقافة العربية حسب رؤوف مسعد، لم تستطع أن تقطع الحبل السري بين المقدس والدنيوي، وبين الجنسانية والحرية. وهكذا لا يزال الكتاب العرب يقتبسون شخصياتهم من تجارب أدبية غربية، في محاولة منهم لخداع القارئ العربي، الذي هو في نظرهم لا يمتلك رصيدا كافيا عن الآداب الغربية، وبالتالي يمكن تمويهه واستغلاله بسهولة. ولهذا ما تزال أغلب فضاءات الرواية تُستوحى من الأماكن والدول الغربية، إلا القلة القليلة من الكتاب الذين ينبشون في تاريخهم وتراثهم وإرثهم الثقافي والأدبي واللغوي. من هذا المنطلق، يمكن القول إن الثقافة العربية تعرف نوعا من التبعية، إذا ما قارناها مع بعض الثقافات الأخرى، خاصة الآسيوية والفارسية. هذه التبعية الثقافية تتمظهر في اعتماد تقنيات الكتابة نفسها، واقتباس شخصيات تجاوزها الزمن، وسرد أحداث في فضاءات مكانية بعيدة كل البعد عن المحيط المعاش، الذي ينتمي إليه الكاتب. هذه الآليات الإبداعية جيدة ولها مكانتها في الدراسات الأكاديمية والنقدية، لكن إلى متى ستستمر الثقافة العربية في استهلاك إرث الثقافات الأخرى، التي تعرف تطورا متواترا؛ إن على مستوى الفكر أو على مستوى الإبداع والابتداع.
ومن ثمة، فإن الثقافة العربية في حاجة إلى ثورة فعلية، تعيد بناء ركائز جديدة للأدب والفن، وتتماشى مع أصداء المجتمع ومعاناته. فالقارئ العربي في حاجة إلى نصوص بعيدة عن التصنع اللغوي والاقتباس الأسلوبي. كذلك في حاجة إلى كتاب وشعراء يغردون وحدهم خارج السرب عن طريق اعتماد لغة تتماشى مع لغة العصر. كما أن الانفتاح على الثقافة الأخرى والحوار معها ضروري، لكن في حدود معينة حتى لا يسقط المتلقي في فخ التأثر والتقليد الأعمى. كل هذه الأسباب تجعلنا نقرأ للكتاب الشباب، جيل اليوم والغد، حيث تختلف تصوراتهم للأدب والكتابة خاصة، وللثقافة عامة. كما أن تلقيهم للنصوص الأدبية المعاصرة والحديثة، يدفعهم إلى كشف دوافعهم الثقافية المستقبلية التي ستغير حتما من نمط الثقافة السائدة حاليا، نحو ثقافة أدبية تعكس عصر السرعة وتطور أساليب الكتابة والتلقي.

الثقافة العربية في تطور

ومن هذا كله، تعتبر الكاتبة الشابة والمدونة الجزائرية خولة شنوف، أن الثقافة العربية اليوم في تطور، ولم تعد حكرا فقط على الأسماء المعروفة، كما كان الحال سابقا. اليوم وحسب الكاتبة دائما، فالانفتاح على التكنولوجيا وانطلاق العديد من المواقع الداعمة لأقلام الشباب، أتاح للجميع إمكانية الكتابة والنشر، ولم تعد الساحة الأدبية مقتصرة على الأسماء الكبيرة فقط. بإمكان الجميع التأليف والكتابة، كما أنّ وجود مسابقات أدبية سنوية، ساهم كثيرا في تسليط الضوء على أقلام شبابية واعدة. وبطبيعة الحال، مع كثرة المؤلفين، تبقى جَوْدة العمل الأدبي المتكاملة العناصر، هي العامل الأساسي في الاستمرار والنجاح. وتؤكد الكاتبة على أن الكتابة كانت وستظلُّ بالنسبة لها ثورةً وسلاحًا، وهي ضرورة في وقتٍ كلّ ما حولنا يشدّنا إليها شدًّا، وهكذا تقول: «ربما نحن لا نحترفها ولكنّها وسيلتنا لقول «لا» في وجهِ كلّ من يستحقه. كما تعتبرها وسيلة للتّنفيس عمّا في دواخلنا وإيصالِ صوتنا الحر. والكتابة منذُ بداية نشأتها لم تبتعد عن هذا الطريق، بالإضافة إلى أن أغلب الكتب والمؤلفات وُجدت لغاية معينة وهدفٍ سام. ولكل هذه الأسباب تكتب الآن. إن جيل الشّاب اليوم يحمل مشعلَ التغيير. ويرى في الكتابة متنّفسا وإثباتًا لوجوده في ظلّ واقع يهمشّه ويحرمه من أبسطِ حقوقه. لذا ترى الكاتبة في الكتابة ضرورةً، بل نافذةً يتسرّبُ منها النور».
وانطلاقا من هذا التصور، لا بد لنا من استحضار أفكار الناقد حاتم الصكر، الذي يرى أن الثقافة العربية ستستفيد حتما من التغيير الحاد في الأنظمة والمؤسسات. فبعد الثورات العربية عرف الأدب نوعا من الانعطاف في وسط ضجيج التغييرات، التي عصفت وما تزال تعصف بالعالم العربي. ومن المؤكد أن المشهد العربي يعرف اليوم نوعا من التراجع على مستوى التذوق والتقبل. فغالبية القراء العرب يفرون إلى قراءة الأعمال الغربية، والسبب راجع إلى أن الأدب العربي لم يعد يقوم بوظيفته، من خلال تجاهل ذوق المتلقي وعدم قيادته لتغيير أفقه وتصوراته. وحسب حاتم الصكر، فحتى يصل التغيير إلى جسد الأدب والثقافة عموما، يلزمنا التحرر أولا من مهب التحول التاريخي الذي نعيشه. فليس للمثقف أو الكتاب مفر ولا منقد سواه. بيديه يجب أن يشق طريقه ويفتح له أفقا، وكذلك موقعا في مجتمعه وعالمه. إذن، الثقافة العربية رهينة بتحرر الفرد وسعيه إلى فرض نفسه في المشاهد الثقافية عن طريق الابتكار والإبداع، الذي لا يحمل ألوان التقليد.

الثقافة والهشاشة

من جانب آخر، ولكن في السياق نفسه، يرى الكاتب المغربي الشاب معاد متوكل، أن الثقافة في العالم العربي تعرف نوعا من الهشاشة واللااهتمام في ما يخص الطاقات الشابة. وهذا الكاتب، مؤلف لمجموعة من النصوص الأدبية، تندرج في صنف الرواية الحديثة، وتتطرق إلى مسألة الذات وعلاقتها بالآخر. وقد استنكر – وهو الذي شارك في مسابقة الألعاب الفرنكوفونية بدولة السنغال مؤخرا – غياب كل بوادر الاهتمام بالطاقات الشابة التي تمثل العالم العربي في المحافل الدولية، مشيرا إلى أن هذه السياسة النزقة، لن تفيد الثقافة العربية، بل ستكون من الأسباب التي ستكرس مفهوم السيطرة والاحتكار. ليس الأدب العربي هو فقط الذي يعاني اليوم، حتى الآداب ذات الطابع الغربي، ويخص بالذكر الأدب الفرانكفوني، يعاني أيضا فيدول المغرب العربي بسبب قلة الاهتمام، وتركيز وسائل الإعلام والنقاد على الوجوه والأسماء نفسها. وقد انتقد الكاتب بشدة هذا السلوك باعتباره المشارك الوحيد، الذي يمثل المغرب والعالم العربي في هذه المسابقة، معربا عن أسفه إلى ما وصلت له الثقافة اليوم.
يبدو أن الأدب العربي في منعرج لا يستقيم أبدا، منعرج يتأرجح فيه الأدب بين التطور والتوقف. فالخلل الحاصل ربما، هو أن أغلب الباحثين العرب ينكبون على ترجمة الأعمال النقدية والأكاديمية الغربية، عوض الاشتغال على النصوص العربية، وجعلها منطلقا لتصوراتهم وأفكارهم ونظرياتهم، إن كانت هناك نظريات ما، كما يدعي البعض. لكن، لا يمكن حجب الشمس بغربال، فهناك مجموعة من الثقوب تجعل الثقافة العربية في خلل مستمر. وفي الحقيقة أن الساحة الأدبية أصبحت غير قادرة على إنتاج شعراء وكتاب ينافسون الكتاب العالميين، فعلى الرغم من كثرة الكتاب وحصولهم على كبرى الجوائز العربية، فإن ذلك ليس كافيا، والدليل أن ترجمة المؤلفات الأدبية العربية إلى اللغات الأخرى شبه منعدمة، حيث إن القلة القليلة من تتاح لها الفرصة لذلك. فعوض ترجمة النصوص الغربية إلى العربية، لما لا يعمل المترجمون العرب على ترجمة الروايات العربية إلى اللغات الغربية في إطار التعريف بالأدب العربي، كأدب له أسسه وخصائصه ومميزاته. ومن هنا، فالكتب المنظرة للأدب العربي عمل على ترجمتها الباحثون الغربيون بمـساعدة بعض النقاد والمترجمون العرب.
هنا، يظهر الاهتمام المبالغ فيه بالثقافات الغربية وآدابها على حساب إهمال الثقافة العربية عامة، والأدب بشكل خاص. كل هذه الأسباب تدفع بالمثقفين والكتاب والشعراء والمدونين الشباب إلى التساؤل وفتح قوس حول ماهية الثقافة العربية ومدى قدرتها على مسايرة تطور الثقافات الأخرى.
وهكذا ترى الكاتبة المغربية فاطمة الزهراء زعري، أن الثقافة العربية تطورت كثيرا، وأصبحت اليوم في متناول الجميع بعدما كانت حكرا، أو كما وصفته، بالوسام الذي احتكرته مجموعة من الأسماء مما كان يجعل القارئ مجبرا على التأقلم مع أفكارهم نظرا لغياب النقد. لكن، الثقافة العربية اليوم منفتحة على الجميع، حيث يشترك الكبار والشباب في الكتابة والنشر والنقد، بل أصبح للشباب دور مهم في تطور آليات الكتابة وانفتاحها على باقي الفنون. فبعدما كانت فرص التواصل شبه منعدمة بين الفاعلين في الثقافة عامة، والأدب خاصة، أصبح اليوم بإمكان الشباب لعب دور الوساطة ومنافسة الكبار في كبرى المحافل الثقافية والأدبية والفنية. وتضيف الكاتبة، أن الشباب اليوم يرفضون الاختباء وكبح رغباتهم في إظهار مواهبهم وقدراتهم على نسج نصوص أدبية ومقالات نقدية تشد القارئ وتمنحه فرصة للتعرف على أفكار مختلفة عما تعودوا عليه سلفا. إذ إن تعدد منصات الكتابة اليوم، وإقبال دور النشر على إنتاج الشباب يسهل عملية التلقي وتبادل التصورات والانتظارات الثقافية والأدبية، فالشباب اليوم يتمردون ضد التهميش والنسيان والإقصاء، الذي طال الأجيال السابقة، منتصرين للثقافة واستمرار الإنتاج الثقافي تحت ظل التشارك وتبادل وجهات النظر، التي من شأنها المساهمة بفعالية في تطوير المشهد الثقافي العربي.

التخلص من الضجيج

وفي هذا الباب، تُعرف فاطمة الزهراء زعري الكتابة، على أنها فضاء يتخلص فيه الكاتب من الضجيج والصخب، في محاولة منه كشف كل العوالم الممكنة التي تسكن ذاته وتحتويها. فالكتابة، أشبه بمحاولة العيش خارج حدود الواقع، جنةٌ تُنقذ الكاتب من قبح هذا العالم، حيث يتحول الكاتب إلى ما يشبه الشمع يضيء ويشــــتعل، ليعطي هذا العالم ماهية أخرى، تخرج عن منطق العيش المعتاد بعيدا عن قانون التكرار.
إن الكتابة، مرآة الحزن الدفين الذي يتمرد على جسد الكاتب، ليدفع المتلقي إلى التساؤل وتحريك ذهنه. ويبقى النسيان حسب الكاتبة، الخطر الذي يهدد مخيلة الكاتب وقد يكون سما قاتلا إن تعاطى له. لذلك، فالكتابة في تصورها هي محاولة إنقاد الذات واللغة والثقافة من الغرق.
جملة القول، إن الثقافة المرموقة أو الثقافة المنتجة والمتطورة تستدعي تدخل كل الفاعلين من كتاب ونقاد وشعراء ورسامين ورواد الفن السابع والمسرح، وذلك عن طريق العمل على تصحيح كل الهفوات التي من شأنها عرقلة العامل الثقافي. ومن ثمة فإن المشاركة الفعالة في المشهد الثقافي كفيلة لتحقيق نوع من الازدهار الثقافي والفني؛ وقد تجعل من الثقافة العربية الحديثة قبلة للباحثين والأكاديميين. لكن، يصعب تحقيق هذا الأمر في الوقت الذي تعرف فيه الساحة الثقافية العربية نوعا من الركود والهشاشة والصمت المبالغ فيه. فالمثقفون العرب عاجزون اليوم عن تقديم تصوراتهم حول التحولات الاجتماعية والسوسيوسياسية التي يعرفها العالم العربي، ونادرا من يكشف بعض المثقفين عن أطاريحهم خوفا من السلطة. إن المثقف العربي اليوم، عاجر عن المقاومة والتحلي بأخلاق القضايا الملتزمة والدفاع عن قضايا الشعب. ذلك أن المجتمعات العربية ليست بحاجة إلى مثقفين لا يتقنون إلا لغة الصمت، فأين هو المثقف الذي نظر له جان بول سارتر وميشال فوكو وجيل دولوز وأدوارد سعيد؟ المثقف الذي يتحدى السلطة في سبيل تمرير أفكاره التي عادة ما تكون مرآة لمعاناة المجتمع. إن المشهد الثقافي العربي يمكن وصفه بالجسد المشلول فقط بعض أطرافه تستطيع الحركة، وهذه الأطراف المتحركة تمثل نسبة الفاعلين الذين وهبوا حياتهم من أجل استمرار هذه الثقافة. ولا ريب أن الصمت الذي يعاني منه المشهد الثقافي العربي، كان سببا قويا دفع الشباب إلى أخذ المبادرة والتعبير عن عدم رضاهم إلى ما وصلت إليه الأمور. فالشباب العربي يعتبر مشعل الغد واليوم، ويتعارض في تصوراته مع ما أنتجه المثقفون القدامى، ربما هي بعض الإشارات الدالة على ميلاد فكر جديد بتصورات وانتظارات جديدة.

(القدس العربي)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى