الحيّ.. ل “كادي حكمت”

-كادي حكمت-  خاص (الجسرة)

 

إنه الحي حيث أمضيت طفولتي، أعود اليه بعد غياب سنين طويلة ولا أعلم ما الذي أعادني إلى هنا بالضبط. ولا أعلم ما هو الوقت تحديدًا لكنّه على الارجح وقت غروب يوم ما. يبدو الحي مهجورًا وبيوته مهدّمة بشكل متفاوت. الابواب والنوافذ مفتوحة، تتطاير منها ستائر بيضاء مصفرة وكأنَّ الناس خرجوا من منازلهم على عجل. الحدائق جافة والاشجار صفراء عارية.
أمشي في الطرقات الهادئة إلّا من صوت الريح، لعلّه فصل الخريف بكل كآبته قد حل؛ أحاول جاهدة أن أفهم لمَ أنا عاجزة عن تحديد الوقت، ولمَ أنا عاجزة عن تذكر عمري، فلا أفلح!

أوسع خطواتي لأصل إلى بيتنا بأسرع وقت، أبحث خلال ذلك عن البشر فلا أسمع صوتًا ولا أرى طيفًا. المكان خالٍ تمامًا إلّا من صوت الريح ونباح الكلاب ووقع أقدامي.


(بيتنا)
– إنّه بيتنا أخيرًا : يبدو شاذًا وسط البيوت الخربة المهجورة، نوافذه مغلقه، لا يزال محافظًا على لونه الأبيض وسط الصفرة والخراب والذبول من حوله. كان صموده هذا يشي بالحياة والطمائنينة فاندفعت صوبه بسرعه جنونية.
– وسط الموت كانت شجرات أبي وورود أمي على قيد الحياة. ورودها حمراء ووردية وبرتقالية وصفراء.. رائحة الجوري تملأ المكان وكأنها روتها بالماء للتو. فتحت الباب واندفعت للداخل. الأثاث مغطى بشراشف بيضاء والغبار يغطّي المكان. ثمة رائحة قوية يدركها الأنف سريعًا تنبعث من الداخل، على الأرجح رائحة جثة لإنسان أو حيوان. أصرخ”ماما، ماما!” فلا ترد. “بابا ، بابا “.. تجبرني الرائحة على مغادرة المكان دون انتظار رد والدي. 


(فناء)
في الفناء الخارجي حيث تنبح الكلاب تصل إلى مسامعي أصوات أخرى من مكان قريب؛ إنّه الفناء الخلفي لبيت جارتنا الأرملة حيث اعتدنا أن نلعب. إنه صوت أطفال يصرخون ويضحكون. اقتربُ من السور لأسترق السمع والنظر. إنهم “نحن” أطفال الحي الفقير البائس جميعًا، إننا أجساد بلا رؤوس.

أقول “نحن” لأن تلك التي ترتدي فستانًا أبيض منقطًا بدوائر حمراء صغيرة هي “أنا” . أذكر ذلك الفستان جيدًا، لقد خيطته خالتي لي حين كنت في السادسة. ولكن لمَ نحن بلا رؤوس؟
اجساد بلا رؤوس تتحرك وتلعب وتعلو اصوتها، من أين تأتي هذه الأصوات إذا كنّا بلا رؤوس؟ بعضنا يرتدي ملابسه، وأكثرنا عراة. العراة بلا اعضاء تناسلية تحدد جنسهم. لمَ نحن نكرات لهذا الحد؟ أغطي فمي بكفي لأكتم صوت شهقاتي وبكائي. أرى جسد جارتنا الأرملة على أحد الشبابيك تقف بلا رأس أيضًا وكأنها تراقب الاطفال في الفناء. يعلو صوت بكائي فيقاطعني صوت رصاص آت من مكان قريب!!
إنهم جنود بملابس سوداء، بلا رؤوس ايضًا. يقتلون الاطفال في الفناء والارملة على الشباك بدم بارد، ويمضون..


(ابيض)
يتعالى صوت نحيبي، لكن رجلًا من الخلف يضمني إلى صدره. “لا بأس”، يهمس لي. قميصه أبيض وجسده ضخم. إنه مثلي “برأس” وأستطيع أن استشعر وجود رأسه من قبلته على شعري.. أمد يدي لأطمئن أكثر لوجود رأسه؛ إنه بالفعل رجل برأس أصلع، وقميص أبيض، وجسد ضخم، يقبّل رأسي و يهمس:”لا بأس..لا بأس”!!

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى