قبل إعلان جوائز مهرجان فينيسيا: من الأحق بـ’الأسد الذهبي’؟

أمير العمري

يمكن القول إن المستوى العام لأفلام مسابقة من مهرجان فينيسيا السينمائي لهذا العام أفضل كثيرا قياسا بمستواها في العام الماضي، ولكن الملحوظة الأكثر بروزا -كما أشرت في مقال سابق- تتمثل في طغيان الأفلام الأميركية على المسابقة (8 أفلام).

وشاهدنا أيضا الفيلم الإيطالي “الباحث عن المتعة” وهو أحد ثلاثة أفلام ممثلة لإيطاليا في المسابقة، فاتضح أنه أيضا فيلم أميركي الموضوع والتوجه ومواقع الأحداث، كما أنه ناطق بالإنكليزية وتقوم بدوري البطولة فيه البريطانية هيلين ميرين والأميركي دونالد سوذرلاند، رغم أنه من الإنتاج الإيطالي ومخرجه إيطالي هو بابلو فيرزي، واتضح أيضا أن الفيلم البريطاني “لين أون بيت” هو أميركي الموضوع والممثلين وأماكن وقوع الأحداث وأنتج بمشاركة أميركية، لكنه يمثل بريطانيا في المسابقة كما أن مخرجه هو البريطاني أندرو هيغ.

ظاهرة اتجاه الكثير من السينمائيين الأوروبيين لصنع أفلام أميركية ليست جديدة تماما، فقد كانت هوليوود قادرة دائما على استقطاب المخرجين الأوروبيين وغيرهم، لإخراج أفلامهم في الولايات المتحدة من إنتاج وتوزيع الشركات الأميركية، لكن الجديد نسبيا أن أصبح المخرجون الأوروبيون يخرجون أفلاما من الإنتاج الأوروبي تدور أحداثها في أميركا مع توظيف النجوم الأميركيين ضمانا لتسويق أفلامهم، ويرجع هذا إلى ضعف الإقبال على الأفلام المحلية في البلدان الأوروبية، والرغبة في اقتحام السوق الأميركية التي تعد الأكبر في العالم.

 

المنافسة على أي حال شديدة بين الأفلام الأميركية نفسها فمن أفضل ما شاهدناه في هذه الدورة الفيلم الأميركي “ثلاث لوحات خارج إيبنغ، ميسوري” للمخرج مارتن ماكدوناه وهو كاتب سيناريو بريطاني تحول للإخراج وهذا هو فيلمه الطويل الثالث، وفيه يكشف عن موهبة فريدة في التعامل مع الممثلين، والقدرة على خلق أجواء عبثية تماثل كثيرا عالم أفلام الأخوين كوين.

بغض النظر عن هذا الإسم “الكارثي” للفيلم، نحن هنا أمام كوميديا سوداء ساخرة تندلع من داخل التراجيديا، تمتلئ بالعنف واللعنات التي تصبها الشرطة على الناس ويصبها الناس على الشرطة.

وفيما بين الطرفين، تسود أجواء التشكك وانعدام الثقة والرغبة في الانتقام، مع الخروج الفظ على القانون، هذه هي صورة أميركا المعاصرة كما يعكسها هذا الفيلم الممتع الذي يجعلك تضحك على ما تشاهده من شخصيات ذات ملامح كاريكاتيرية تتصرف بجنون وقسوة تتجاوز كل الحدود، لكن دون أن يجعلك الفيلم تبتعد عن المقارنة الذهنية بين ما تشاهده وما يحدث على أرض الواقع في أميركا اليوم.

 

الشرطة والناس

تقوم فرانسيس ماكدورماند -بطلة معظم أفلام الأخوين كوين- بدور “ميلدريد” وهي سيدة في منتصف العمر، اغتصبت ابنتها الشابة وقتلت ومضت أشهر عدة دون أن تكون الشرطة المحلية في تلك البلدة الواقعة في وسط الغرب الأميركي، قد فعلت شيئا ملموسا أو حققت تقدما في هذه القضية التي ظل مرتبكوها طلقاء.

وتستأجر ميلدريد ثلاث لوحات ضخمة في مدخل البلدة تعلق فوقها عبارات تشير على نحو ما إلى تقاعس الشرطة، وتتهكم بالأخص على رئيس قسم الشرطة “الشريف ويلبوري” (يقوم بالدور ببراعة وودي هارليسون).

ويمتد نضال هذه السيدة ويتخذ فيما بعد أشكالا فوضوية عنيفة، في الوقت الذي يشتط فيه ويجنح ضابط الشرطة الشاب الأرعن “جيسون ديكسون” (سام روكويل)، الذي يسعى بشتى الطرق لدفع ميلدريد إلى إزالة اللوحات الثلاث.

أما الضابط ويلبوري فهو يعاني من مرض السرطان ويوشك على الموت، ويحاول استدرار عطف ميلدريد دون جدوى، ومع تطور الأحداث يفقد ديكسون وظيفته بعد أن يكون قد تجاوز الحدود في مخالفة القانون، وتتجه ميلدريد في عدائها للشرطة إلى أقصى الحدود، لكن الحل الذي يتوصل إليه الجميع هو أن تضع الشرطة يدها في يد الناس وأن يتعاون الطرفان معا في نهاية الأمر، ولكن بعد أن يكون قد جرى الكثير من الأحداث الدامية.

هناك الكثير من المواقف الساخرة الإنسانية في الفيلم، ورغم التجهم الواضح في شخصية ميلدريد إلاّ أنها تكشف عند الضرورة عن رقة في المشاعر، مع التأكيد على أنها لا تسعى للانتقام لابنتها بقدر ما تريد أن تكشف مدى ضعف الشرطة وتخاذلها وعجزها، إنها تعبر عن انعدام ثقة المواطن الأميركي “العادي” في القوة التي يفترض أن توفر له الحماية.

إننا أمام نموذج سينمائي فريد لفيلم يجمع بين شخصيات غريبة متطرفة يقربنا منها من خلال المغالاة في تصوير ملامحها، وينجح المخرج البريطاني وهو نفسه كاتب السيناريو، في فهم وتوظيف معرفته بالواقع الأميركي في تلك المنطقة من الولايات المتحدة، ولن يكون من المفاجئ أن يفوز هذا الفيلم بـ”الأسد الذهبي” أو على الأقل بجائزة أحسن ممثلة لماكدورماند.

 

والحقيقة أن المنافسة قوية على هذه الجائزة تحديدا فالأداء النسائي في بطولات الأفلام يبدو بارزا كثيرا في مسابقة هذا العام ربما أكثر من أداء الممثلين الرجال، فإلى جانب ماكدورماند لدينا على سبيل المثال الأداء البارز للممثلة البريطانية سالي هوكنز في “شكل الماء” (الذي تناولته في مقال سابق)، وهيلين ميرين في “الباحث عن المتعة”، والأميركية جوليان مور في “سابيربيكون”.

أما بخصوص الممثلين الرجال ففي رأيي الشخصي أن جائزة أحسن ممثل يستحقها عن جدارة مات ديمون عن دوره في فيلم “سابيربيكون” الذي أخرجه جورج كلوني دون أن يمثل فيه، وقد ينال الجائزة ستيف بوسيمي عن دوره الرائع في فيلم “لين أون بيت” كتاجر عملي جشع يشتري ويدرب خيول السباق، يستغل البطل الصغير أسوأ استغلال، قبل أن يفر الأخير لينقذ الحصان الذي ارتبط معه بصداقة فريدة لينقذه من الذبح بعد أن أصبح عاجزا عن الفوز في السباقات.

ويتميز دونالد سوذرلاند أيضا في دور مدرس عجوز يعاني من مرض الزهايمر يقوم برحلة أخيرة مع زوجته، قبل أن يودع الحياة في فيلم “الباحث عن المتعة” The Leisure Seeker.

 

العنصرية الأميركية

“سابيربيكون” Suburbicon دون شك أحد أفضل أفلام المسابقة، وهو يناقش من خلال سرد أصيل ممتع موضوع العنصرية، شأن الفيلم الأسترالي في المسابقة “بلد حلو” Sweet Country للمخرج واريك ثورنتون.

ويتناول “سابيربيكون” العنصرية في الولايات المتحدة من خلال قصة خيالية تدور في الماضي عن تلك المدينة الفاضلة النقية التي أسستها جمعية تمثل الطبقة الراقية لتكون حصنا منيعا لأبناء هذه الطبقة يقيهم شرور العيش في المدن المكتظة، إنها شبيهة بالمجتمعات المغلقة الجديدة التي أقيمت في محيط القاهرة وتتمتع بأسوار وحماية وبوابات، لسكنى أبناء طبقة الأثرياء الجديد وحمايتهم من المناظر “المؤذية” الموجودة في شوارع القاهرة القديمة ومن احتمالات اندلاع ثورات الفقراء والمهمشين.

أما في الفيلم الأميركي فهذه الضاحية الهادئة النظيفة، يجب أن تخلو أيضا من السود الأميركيين، وعندما يفاجأ سكان الضاحية بوجود أسرة من السود بينهم، تثور ثائرتهم وتتصاعد أعمال العنف لتصل إلى مستوى غير مسبوق، وهذا الجانب من الفيلم يتقاطع مع قصة أخرى حول تلك الأسرة الأميركية المثالية “البيضاء” المفترضة التي يمارس أفرادها الاحتيال والنصب والكذب والقتل ولا مانع حتى من التضحية بأقرب الناس مقابل الحصول على المال.

ولا شك أن عودة موضوع العنصرية إلى السينما الأميركية بوجه خاص يرتبط بتجدد هوس العداء العنصري في ضوء صعود اليمين بعد وصول دونالد ترامب بشعاراته المعادية العنصرية إلى قمة السلطة.

أما الفيلم الأسترالي “بلد حلو” فيتناول موضوع العنصرية من خلال أسلوب وشكل فيلم “الويسترن”، ولكن من دون مبارزات وأبطال وصراعات على الذهب بين رعاة البقر، بل يركز بشكل خاص على اضطهاد وتسخير واستعباد السكان الأصليين (الأبورجينز) في أستراليا من خلال قصة تستند إلى وقائع حقيقية.

تدور أحداثها في العشرينات من القرن الماضي في إحدى المستعمرات التي أقامها الإنكليز في القارة الجديدة، حيث يتم الاعتداء من قبل الرجال البيض من ملاك الأراضي وغيرهم، على نساء الأبورجينز، ثم يقومون بفصل وإبعاد الأطفال الذين يأتون نتيجة لهذه الاعتداءات عن أمهاتهم بموجب قوانين كانت تسمح لهم بذلك، لكن تقوم القيامة عندما تقع شبه مقاومة، فيقتل رجل من السكان الأصليين أحد المعتدين البيض دفاعا عن شرفه وكرامته.

 

فوكستروت

ومن أفضل ما عرض في المسابقة الفيلم الإسرائيلي “فوكستروت” Foxtrot إخراج صامويل ماعوز، وربما يفعلها ماعوز ويحصل للمرة الثانية على “الأسد الذهبي” وهي الجائزة التي فاز بها في 2009 عن فيلم “لبنان”.

وكما كان “لبنان” فيلما معاديا للحرب وللنزعة العسكرية الإسرائيلية بشكل عام، يسير “فوكستروت” في نفس الاتجاه، ولكنه يتجاوز كثيرا الفيلم الأول على مستوى الشكل والخيال الفني، والقدرة على الابتكار، والتصوير المدهش للموضوع من خلال مزيج من السخرية السوداء، والعبث المجنون، والهجاء الحاد للمؤسسة العسكرية، منتقلا من الأسلوب الواقعي الصارم إلى أسلوب ما بعد الحداثة، ويستحق الفيلم بالتأكيد مقالا خاصا.

 

وأستبعد أن يفوز الفيلم اللبناني “الإهانة” بجائزة رئيسية رغم بروز مستوى التمثيل فيه بدرجة ملفتة، خاصة أداء عادل كرم في دور المسيحي المتعصّب الذي يقاضي عاملا فلسطينيا لسبب تافه مدفوعا بكراهيته للوجود الفلسطيني في لبنان.

كما أستبعد فوز الفيلم الفرنسي الضعيف “الفيلا” بجائزة رئيسية بسبب فشله في استخلاص معان أبعد من الوصف النمطي المتكرر لأفراد أسرة بورجوازية فرنسية تبرز تناقضاتها بعد أن يصبح عائلها الكبير مشرفا على الموت، ويفترض أن يترك خلفه “الفيلا” الشامخة التي أنشأها على ساحل البحر.

أبناء الرجل الثلاثة مشغولون بأنفسهم وبما سيحدث بعد وفاة الأب، رغم أنه لا يزال بينهم على قيد الحياة، وتتفجر بينهم مشاعر الإحباط والمرارة وعدم التحقق، إنها دراما تشيكوفية تقليدية يتم تصويرها من خلال الشكل المسرحي، ولكن ربما تتوصل محصلة المناقشات داخل لجنة التحكيم التي ترأسها هذا العام الممثلة الأميركية أنيت بيننغ إلى منح هذا الفيلم تحديدا الجائزة الكبرى، فقد تكرر هذا الأمر كثيرا وخاصة في مهرجان فينيسيا، حيث كثيرا ما فاز بالجائزة الفيلم البعيد كل البعد عن توقعات النقاد!

أما فيلم دارين أرونوفسكي “الأم” Mother، فهو أكثر الأفلام المخيبة للآمال في المسابقة، وهو استلهام بتصرف كبير من فيلم “طفل روزماري” (1968) لرومان بولانسكي، ولكن شتان بين الفيلمين، فبينما كان فيلم بولانسكي يعكس رؤية تشاؤمية لمستقبل العالم، لا يزيد فيلم أرونوفسكي عن مجرد أحد أفلام الرعب الرخيصة، فهو يصفع المتفرج ويستغل بطلته النجمة جنيفر لورنس أسوأ استغلال.

لورنس تقوم بدور امرأة شابة متزوجة من كاتب وشاعر يكبرها كثيرا في العمر يقوم بدوره خافيير بارديم، ينعزل الاثنان في منزل قديم وسط الغابات، حيث تقوم هي بإعادة طلائه وإصلاحه، ثم يبدأ وصول شخصيات غريبة إلى المنزل، يرتبكون الكثير من الحماقات المجنونة، ثم يزداد عددهم بحيث يملأون المنزل تماما ويقومون بتحطيم الأثاث والعبث بمحتوياته.

يبدو الزوج متواطئا معهم من البداية، وفي النهاية بعد ساعتين من الصراخ الهستيري والتعذيب والاعتداءات البدنية العنيفة ومناظر الدماء والأحشاء الممزقة المقززة، يستولون على الطفل الذي تلده الأم لترتفع صيحاتهم تمجيدا للشيطان! نتائج مهرجان فينيسيا دائما تحفل بالمفاجآت، كما تخضع أيضا لبعض التوازنات، فقط لننتظرْ ونَرَ ما سيحدث.

 

(العرب)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى