«سقوط العثمانيين» .. الامبراطورية تلفظ أنفاسها

كثرت الكتب عن الحرب العالمية الأولى خلال السنوات الأخيرة، بمناسبة اقتراب مرور مئة عام على نهايتها (1914 ــ 1918). وأحد أهم هذه المؤلفات كتاب «سقوط العثمانيين» لمدير مركز الشرق الأوسط في جامعة أوكسفورد البريطانية، «يوجين روجان «، والصادر عن دار «بنجوين» البريطانية. ومن المُلاحظ على بعض هذه الإصدارات أنها اشتركت في عدة سمات منها .. الحديث عن الجنود والضباط العثمانيين مما يعطي الانطباع بأنهم كانوا جميعا أتراكا، وهذا غير صحيح لأنهم كانوا أتراكا وعربا وأقواما أخرى سكنت في المناطق التي سيطرت عليها الدولة العثمانية، فمثلا أغلبية الذين قاتلوا في غاليبولي والكوت كانوا عربا وليسوا أتراكا. كما أن الجندي العثماني كان في منتهى الشجاعة والانضباط وقام بواجبه على أكمل وجه، إذا أخذنا بنظر الاعتبار الإمكانيات الضعيفة للجيش العثماني، إلا أن الشجاعة ليست سوى معيار ثانوي في الحروب على مر العصور، لأنها تنكمش من حيث الأهمية أمام فعالية الأسلحة الحديثة والتدريب الجيد وخبرة القيادتين العسكرية والسياسية. أما السمة الأخيرة فقد كانت أن كلمة (سوريا) في تلك الكتب لم تعن دائما سوريا الحالية، بل المنطقة التي تضم سوريا والأردن وفلسطين ولبنان.

حرب بالإكراه

كانت الدولة العثمانية قبيل الحرب العالمية الأولى تحت قيادة «لجنة الاتحاد والترقي» القومية التركية، وكان قادة هذه اللجنة، الثلاثي الشهير وهم طلعت باشا (رئيس الوزراء ووزير الداخلية) وأنور باشا (وزير الدفاع) وجمال باشا (وزير البحرية وحاكم سوريا). وكان من أعضائها غير البارزين آنذاك «مصطفى كمال» الذي حكم تركيا بعد الحرب وأصبح اسمه مصطفى كمال أتاتورك.
لقد شعر قادة الدولة العثمانية بدنو الحرب العالمية وأن بلدهم سيكون هدفا سهلا للطامعين، فمن سينتصر في الحرب سينقض عليهم ويلتهمهم، سواء اشتركوا في الحرب أم لم يشتركوا، وكانت مخاوفهم تتركز حول روسيا القيصرية التي لم تخف نواياها، وتاريخها مع العثمانيين خير دليل على ذلك، حيث إنها كانت قد احتلت مساحات شاسعة من أراضي الدولة العثمانية في ذلك الوقت. ولذلك أرادوا أن يدخلوا الحرب إلى جانب الفريق الذي يرجح أنه سينتصر، علهم يسلمون على أنفسهم، فقاموا بعرض فكرة التحالف على بريطانيا وفرنسا اللتين رفضتا العرض، ما اضطرهم في النهاية إلى عرضها على ألمانيا التي قبلت، لاعتقادها أن العثمانيين سيكونون قوة مفيدة ضد روسيا. وحتى عندما بدأت الحرب حاول العثمانيون تجنبها، ولكنهم دخلوها مكرهين، وهم الذين افتقروا إلى صناعة الأسلحة الحديثة والخبرة اللازمة للحروب الحديثة، ما جعلهم يعتمدون تماما على التسليح والخبرة الألمانيتين حيث أرسلت ألمانيا مجموعة من الضباط الألمان الذين كان لهم دور كبير في الدفاع عن اسطنبول وبقية المناطق العثمانية. وبالنسبة للتحالف البريطاني ـ الفرنسي ـ الروسي فإن الدولة العثمانية لم تُعتَبَر عقبة حقيقية بسبب معرفتهم الجيدة بها ومدى ضعفها. ولكن الحلفاء خشوا احتمال تعاطف جنودهم المسلمين، الذين كانوا من أصول هندية أو شمال أفريقية مع الدولة العثمانية، إلا أن التاريخ أثبت قلة هذا التعاطف وأن تلك المخاوف كان مبالغا بها.

حلاوة الروح

وعلى الرغم من أن بداية الحرب كانت سيئة للعثمانيين، إلا أن انتصارين مهمين رفعا من معنوياتهم وهما معركة غاليبولي (1916) وحصار الكوت (1916)، ففي الأولى قام التحالف الذي ضم بريطانيا وفرنسا بالهجوم على مضيق الدردنيل وشبه جزيرة غاليبولي المجاورة لها. ونظم عملية الدفاع عنهما القائد الألماني أوتو فون ليمان، وبرز فيها وللمرة الأولى مصطفى كمال الذي كان مسؤولا عن الدفاع عن غاليبولي وتكبد الجانبان خسائر فادحة. أما في الكوت فقد استسلمت القوات البريطانية بعد حصار القوات العثمانية لها، وكان ذلك يعد أكبر استسلام من حيث عدد الجنود في تاريخ بريطانيا حتى ذلك الوقت.

ضياع بغداد

ومع ذلك فإن هذين الانتصارين لم يكونا سوى حالتين استثنائيتين، فقد استعادت بريطانيا وحلفاؤها المبادرة وبدأت هجماتهم واحتلت بريطانيا الكوت واستمر تقدمها في العراق وبقية مناطق الشرق الأوسط. وفي تلك المرحلة وقعت بريطانيا وفرنسا اتفاقية سايكس بيكو الشهيرة التي انضمت إليها روسيا لاحقا، ولكن هل كانت الأطراف الموقعة عليها ملتزمة فعلا بها؟ لقد كانت روسيا أول من أوضح عدم التزامها لأنها اجتاحت إيران من الشمال واتجهت جنوبا حتى أصبحت قريبة من الحدود العراقية الحالية، وبالذات بغداد التي من الواضح أنها كانت هدفا لهم، وقد أربك هذا الدفاعات العثمانية. وفي الوقت نفسه كان البريطانيون يقتربون بسرعة من بغداد واقتنع العثمانيون بعدم قدرتهم على الدفاع عنها، فقرروا الانسحاب بشكل منظم منها. ولكن عملية انسحابهم شملت تفجير المكاتب الحكومية والمنشآت العسكرية وخزانات المياه وكل ما قد يفيد البريطانيين بالديناميت وكانت نتيجة هذا انفجارات هائلة هزت المدينة وأحرقوا جسر الزوارق على نهر دجلة، وقد أدت هذه الأعمال إلى تدمير أجزاء مهمة من المدينة أرعبت سكانها الذين خشوا على أرواحهم وممتلكاتهم. ودخل البريطانيون بغداد في الحادي عشر من آذار/ مارس 1917 بقيادة الجنرال مود، الذي ألقى خطابا شهيرا كان قد كتبه العقيد سايكس الذي ساهم في وضع نص اتفاقية سايكس بيكو بالنيابة عن الحكومة البريطانية، وكانت نسخ من الخطاب قد وزعت في المدينة. وكانت خسارة بغداد كارثة معنوية للعثمانيين، فقد كانت الجوهرة التي يفتخرون بها وكان لفقدانها ضرر بالغ على هيبتهم وثقتهم بأنفسهم، فعلى الرغم من عدم أهميتها عسكريا فقد كانت ذات أهمية معنوية قصوى، لأنها كانت المحطة الرئيسية لقطار برلين – بغداد، ونقطة انطلاق لطموحات العثمانيين في الخليج العربي، بالإضافة إلى كونها عاصمة الخلافة العباسية. ولذلك فقد شعر العثمانيون بقرب نهايتهم، فقاموا بتشكيل قوة عسكرية من أفضل العسكريين العثمانيين والألمان وسميت «الصاعقة» ( Yildrim ) لاسترجاع المدينة فورا إلا أن تدهور الموقف العثماني في جبهات أخرى أجبرهم على إلغاء الفكرة.

الثورة العربية

وذكر الكتاب أيضا الاتصالات التي جرت بين البريطانيين والشريف حسين في مكة، والتي انتجت الثورة العربية. وهنا يجد القارئ أسماء كان لها دور محوري في ما بعد لقيادة بلدانهم مثل نوري السعيد وجعفر العسكري، وقد قاد هؤلاء القوات النظامية التابعة للأمير فيصل (ملك العراق فيصل الأول لاحقا) وشهد لهم الجميع بالشجاعة والكفاءة الفائقتين. ولم ينس الكاتب أن يذكر البريطاني الأكثر شهرة في الشرق الأوسط ألا وهو ت. أي. لورنس المعروف باسم «لورنس العرب» وأوضح أن خبرته العسكرية كانت ضئيلة، إلا انه كان يعرف المنطقة جيدا. وقد حاول العثمانيون بدورهم أن يجندوا قبائل البدو كما فعل البريطانيون، إلا أن نجاحهم كان محدودا على عكس البريطانيين. وقام بعض شيوخ القـــــبائل بالتعاون مع الجانبين في الوقت نفسه وهـــــذه ظاهرة نجدها في مختلف أنحاء العالم وعلى مدى التاريخ.

الثورة الشيوعية

تنفس العثمانيون الصعداء عندما اندلعت الثورة الشيوعية في روسيا القيصرية عام 1917، حيث انهار الجيش الروسي وانسحبت روسيا من الحرب، ولكن الجيش العثماني لم يهجم عليهم لاستغلال الفوضى التي عمت روسيا، بل بقي في مكانه لأنه كان يحاول الاستيقاظ من صدمة هزائمه واستعادة أنفاسه. وبلغت الفوضى في روسيا درجة أن العثمانيين قاموا بالتفاوض مع اللجان الشيوعية الثورية السوفييتية (الروسية) المحلية لاسترجاع الأراضي التي خسرها العثمانيون، وقبلت تلك اللجان بذلك بدون العودة إلى قيادتها في موسكو.

صعود أتاتورك ونهاية
الإمبراطورية العثمانية

وعلى الرغم من الهزائم المتتالية التي عانت منها الدولة العثمانية لعدة قرون فإن هذه النكسات لم تقض عليها، إلا أن هزيمتها في الحرب العالمية الأولى كانت الضربة القاضية، فقرارات فرساي التي تلت الحرب كانت قاسية على العثمانيين، وأصبح واضحا أن تغيرا جذريا سيطرأ على البلد، واحتلت بريطانيا وحلفاؤها اسطنبول ومناطق واسعة من تركيا الحالية. وكان قادة لجنة الاتحاد والترقي، قد هربوا عند الموافقة على الهدنة بين العثمانيين والحلفاء المنتصرين، إلا أن مصير أغلب الهاربين كان الاغتيال، فقد اغتيل طلعت باشا في برلين عام 1921 واغتيل أنور باشا في طاجكستان عام 1922 وأما جمال باشا فقد اغتيل في جورجيا السوفييتية عام 1922، وبالنسبة لمن بقي منهم في تركيا فقد كان مصير البعض الإعدام. وهنا قام مصطفى كمال بتشكيل قوة مسلحة خاضعة له وتأسيس الحركة القومية التركية، وكان مركزها أنقرة وتحدى الحكومة العثمانية في اسطنبول وانتصر في هذا الصراع. وبعد ذلك وقعت الحركة القومية التركية مع الدول المنتصرة في الحرب معاهدة لوزان وثُبتت حدود الدولة التركية الحالية، وأنهى مصطفى كمال الدولة العثمانية ومنصب السلطان العثماني، وبذلك لفظت الدولة العثمانية آخر أنفاسها.

(القدس العربي)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى