عصام أبو زيد في رحابة قصيدة النثر

مؤمن سمير

في ديوانيْه «اخترعتُ برتقالة» و «الحركات الرئيسية لرقصة الميرينجو»، والصادرين حديثاً عن دار «روافد» في القاهرة؛ يستخدم الشاعر المصري عصام أبو زيد إمكانات رحابة قصيدة النثر ليصنع من كل ديوان منهما وحدة واحدة، رواية شعرية حيَّة وساخنة سخونة الحياة المتجددة، ويجعل من الشِعر المُحَمَّل بطاقة سردية عالية، نافذةً لاكتشاف أماكن مغايرة في الروح المثقلة. إنه يلعب مع الشعر ويلعب معنا ويحكي نفسه ويحكينا وتلك هي الفتنة. في الدواوين السابقة للشاعر (خمسة قبل هذين الديوانين) كان كل همه التجريد والتقشف وإضفاء الواقعية على ما هو خيالي. أما في هَذيْن الديوانَيْن، فنجد الأمر انعكس؛ إذ يفتح بوابة خياله إلى أقصى درجة ويستخدم حريته وجسارته الفنية في رسم عالم متخيل كامل وإضفاء الحياة عليه ونفخ الروح فيه حتى لتخال الخيال واقعاً حقيقياً وصادقاً ومحسوساً. نستطيع أن نعتبر كل ديوان منهما وحدة واحدة تكمل كل تفصيلة فيه الأخرى- وإن كانت تحتفظ لنفسها بمساحة استقلال تجعلها تبرز في حد ذاتها كجزء معتبر ومتفرد، قصيدة مكتملة، على رغم أنها فصل من فصول الحكاية – وتجعل القصة تضطرد وتتنامى وتتعقد وتأخذ أبعاداً وزوايا أخرى.
يؤكد تلك الملاحظة، كون الشاعر تخلى في الديوانَيْن عن عناوين النصوص وقَسَّم العمل إلى أرقام متوالية؛ وكأنها فصول مِن سرد يؤكد الانتصار للحكي في مجابهة البلاغة واللغة الفخمة. والأبطال المتعددون: المكان/ الزمان/ الذكريات/ الأصوات والروائح/ المسكوت عنه على الدوام/ الحِسية الواضحة حيناً والسارية كسلك كهربائي بين السطور حيناً آخر… إلخ؛ في مواجهة البطل القديم الواحد، المتفرد والوحيد. في هَذيْن الديوانيْن يتشابه الجو العام المرتبط بالفاعلِين– أياً كانوا- وبالجغرافيا وكذلك من حيث الأداء الشعري بينهما لدرجة تصنع مشروعيةً لاعتبارهما جزءين يُكمل ثانيهما الأول؛ إذ نقابل في ديوان «اخترعتُ برتقالة» بطلاً يختار الهروب من الصمت والحزن والكآبة بالسفر والترحال، يقول في المقطع الرقم 29: «ولكننا، في العادة/ نحب النوم/ نحب الهبوط الاضطراري/ في مربع الكآبة». نقابل بطلاً متسع الروح وجاهزاً طول الوقت للحب والحياة، يجيء من منطقة سكونية وثابتة إلى منطلق متحرك ودائم التجدد هو الغرب الواسع الذي يشبه البحر الكبير، من أوروبا ونسائها اللاتي يملكن حيوات وحكايات تتناسب مع وعيهن المختلف والمنفتح والثري، وكذلك مع انطلاقه وتشوفه هو، حيث يجددن خلاياه ويفتحن آفاقاً جديدة للحياة أمامه وداخله. إلى أميركا وبلاد الشرق الأقصى والأدنى، إنه يدخل سريعاً بلا تمهيدات إلى سرد يوميات المحبة بينه وبين كل محبوبة من حيث الإحالات إلى تفاصيل بينهما قد لا يحيط بها المتلقي ولكنه يستنتجها ثم يعتبرها خطوةً في تراتبية موَّارة تشبه الحياة، ويبني عليها أو يندمج معها. كلهن مكتنزات بالروح العامرة وببعض الغموض الذي يصنع تراوحاً في مركز ثقل العلاقة بين الذات الشاعرة كفاعل وبينها كمتلقٍ لفيوضات الطرف الآخر.
الفيوضات الباذخة التي تأخذ أشكالاً وألواناً وأطيافاً في كل لفتة. إن الربط بين الخيال الذي يتحرك به وعن طريقِهِ أنّى شاء، وبين القصيدة، واضحٌ، يقول في المقطع الرقم 3: «خذي كل هذه الهدايا وارحلي/ أغلقي البابَ وارحلي/ لن تنتهي هذه القصيدة على خير/ لن تنتهي هذه القصيدة قبل التاسعة مساءً». ثم تتوالى المشاهد المختلفة لترسم صوراً وأحداثاً متباينة نعيشها معه وكأننا نشاهد فصولاً حيةً وساخنة من فيلم سينمائي مبهر.
ندور خلف هذا المهاجر من دولة إلى أخرى ومن مدينة إلى أختها؛ لنلهث وننسى ثقلنا الوجودي ونكون أكثر خفة. ونستطيع أن نؤكد أن ديوان «اخترعتُ برتقالة» هو الجزء الأول من الرواية، والذي يأتي كله من وجهة نظر الفاعل/ الراوي/ الذات الشاعرة؛ ومن محض خياله هو، لكن الأمر يختلف مع ديوان «الحركاتُ الرئيسية لرقصة الميرينجو»، الذي تظهر كلمات السفر والحزن والكتابة في أول مقاطعه: «الحزن» الذي لا مهرب منه إلا بـ «السفر» عبر «الكتابة». يقول: «أنا سعيدٌ، وفكّرتُ كثيراً أن أسافر الليلة/ كتبتُ شيئاً عن الحزن وكان باهتاً كالعادة/ كتبتُ أن الحزن ثقيل». وكأنما يريد أن يؤكد الارتباط الذي ألمحنا إليه بين القيم السابقة وكذلك بين التجربتيْن؛ ويقول لنا استعدوا معي لمواصلة رحلات الخيال والجنون والهروب الجميل. في هذا الديوان يظهر الفاعل الثاني، الطرف الآخر، واضحاً ومُبادِئاً، نلتقي بطلاً رئيساً هو الأنثى، فكأنما جمع الشاعر نساءَ الجزء الأول في امرأة واحدة.
نلتقي المقاطع الشعرية وهي تُروى على لسان أنثى وهو ما لم يظهر في الجزء الأول من الرواية – ديوان «اخترعت برتقالة» – فتكون الراوية والفاعلة هي الحبيبة وما يكون عليه هو إلا أن يرد عليها بمقاطع أخرى، فيصنع حواراً شعرياً مثيراً. يقول في المقطع الرقم 20، أو بالأحرى تقول هي: «الليلة، هل أقول لجدتي إنك ضاجعتني في طريقنا إليها؟»، فيرد هو في المقطع التالي مخاطباً الجدة: «لا تصدقي كل ما تقوله عني/ لم أكن معها في الابتدائية العاشرة في نهاية المدينة/ أصلاً لم أصل إلى المدينة حتى الآن». وهكذا يكون اختيار الرقصة كتميمة عفوية للديوان الثاني ليس مجانياً، فبعد أن كان هو البطل وراوي الحكايات في الجزء الأول يأتي الديوان الثاني لتكون وجهة النظر مقسومة بين وَعيَيْن ونفسيْن وروحيْن، يشتركان فيهما سواء بسواء.
في هذا الديوان تتسع اللعبة وتتعقد وتأخذ أبعاداً أخرى، إذ ترتد الذات الشاعرة إلى طفولتها المحفورة في النفس أو تعترف البطلة/ الفاعلة الرئيسة باعترافٍ وجودي تستبدل فيه إحساس الامتزاج الروحي مع الإله بالامتزاج الحسي مع الحبيب. وهو الاعتراف الذي لا يخرج إلا في حالة غير اعتيادية كالسعادة الملتاثة أو على العكس: في حالة الألم العظيم. أو تتمنى أمنيتها المخبأة، وتخرج بها من أعماقها الغائرة، تقول في المقطع 62: «أنت تحبني، وأنا أيضاً/ ولكن الانتحار فكرة لطيفة/ وصدقني… إنها قمة التفاؤل». وكلما توغلنا في اللعبة واندمجنا فيها وتماهينا مع نجاح الشاعر في تصدير الإحساس بواقعية الأحداث، تتضح الأمور أكثر، فيظهر من خلال فيض المقاطع أنها ربَّة منزل وأنها تعمل مترجمة وأنها شخصية اكتئابية وأنها حاولت الانتحار بل وأنها ماتت فعلاً، وكانت هذه هي نهاية الرواية ونهاية هذه الرحلة متعددة الوجوه، كما تكون هي لحظة الإفاقة من أمل الطيران والانتصار على الحزن والعودة إلى سجن الذات.

(الحياة)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى