عارف الساعدي: نعيش مازقا نقديا أكثر منه شعريا

منى حسن

يرى الشاعر والناقد العراقي عارف الساعدي أن كل جيل ظهر بعد السيّاب في العراق حاول أن يجترح خصوصية تمثله، في الاختلاف والتجاوز عن الجيل الذي سبقه حتى وإن كان أقل إبداعا. وعارف الساعدي شاعر قلق دوما تجاه ما يكتب، وصاحب تجربة مميزة نجحت في تجاوز الشبه الغالب بين التجارب الشعرية العراقية المعاصرة.
صدرت له ستة دواوين شعرية أهمها: «مدونات»، «جرة أسئلة»، «عمره الماء»، و«رحلة بلا لون». وحاز في مسيرته الأدبية الحافلة عدة جوائز وتكريمات أهمها: المركز الأول في مسابقة المبدعون للشعر التي أقامتها مجلة «الصدى» في دورتها الأولى في دبي عام 2000، وجائزة الفائز الثاني في مسابقة سعاد الصباح في الكويت عام 2004، وجائزة الدولة للإبداع الشعري عن وزارة الثقافة العراقية عام 2014، عن ديوان «جرة أسئلة». كما أصدر عدة كتب في النقد الشعري منها: «لغة النقد الحديث/ من السياقية إلى النصية» عام 2014، وكتاب «مسارات المعرفة الأدبية»، إضافة إلى العديد من المشاركات في المهرجانات العراقية والعربية. وهو يعمل حاليا أستاذا في الجامعة المستنصرية، التقيناه وهو يُعد للسفر لملتقى قصيدة النثر الأخير في البصرة فكان هذا الحوار:

ربما تُربكنا البداية التقليدية للحوارات، لكنها تمثل أهمية كبيرة للقارئ المهتم. فكيف تقدم نفسك للقارئ؟
□ أنا كل هذا الليل من قلقٍ ومن تعبٍ ومن وحش ومن إنسانِ
أنا كل هذا الليل كم متهجدٍ صلى بذاكرتي وكم متهتكٍ أغراني
ولذا ستحكي الناس إني طينةُ فيها بقايا الله والشيطانِ
■ حدثنا عن البدايات، كيف جاءت؟
□ البدايات كانت في السادس الابتدائي حين كتبت أشياء لم أفهمها وقرأتها على القريبين مني فقال البعض إني سرقتها من شعراء موجودين في كتب المحفوظات المنهجية، لحظتها شعرت بسعادة غامرة ذلك أنهم قاربوا بيني وبين هؤلاء الكبار، وبعد أن كبرت قرأت لبارت على ما أذكر بأن الشعراء السيئين هم الذين يستعيرون، أما الجيدون فهم الذين يسرقون. بعد ذلك انقطعت عن الكتابة البسيطة حتى عاودني شيطان الشعر، وطرق بابي في نهاية المرحلة الإعدادية وبداية الدخول إلى الكلية، في تلك المرحلة بدأت أفهم ماذا يعني الوزن واللغة والخطأ العروضي أو النحوي، ماذا يصنع و.. و، ولكنها كلها كانت بدايات وتمارين للكتابة، حتى أني أذكر أني أكتب في كل ليلة أكثر من 40 بيتا أو 50 بيتا في القصيدة الواحدة، وهو عبارة عن إسهال كتابي لا معنى له، بعد ذلك حين تحسست جرح الكلمة ومسؤوليتها تذكرت الفرزدق حين يقول «قلع ضرس أهون من كتابة بيت».
■ ماذا عن جماعة «قصيدة شعر»؟
□ «قصيدة شعر» كانت تجربة جيدة على الأقل بالنسبة لنا أبناء الجيل التسعيني في العراق، حين كانت قصيدة النثر متسيدة على الساحة الثقافية، وكل ما عداها يُعد خارج الإبداع، فالنصوص الموزونة فقط للمناسبات الوطنية والدينية، وحين نكتب نصوصا عمودية في أواسط التسعينيات ونهايتها كان شعراء قصيدة النثر ينظرون إلينا بوصفنا كائنات منقرضة، وجزءا من المتحف الثقافي الذي يجب أن نعلق فيه، لا لأهميتنا، إنما لتخلفنا وكُهوفيتنا، حتى إن أحد الأصدقاء كتب عنا عمودا عنونه بـ«السلفية الشعرية»، وذكر في متن العمود أسماءنا فمازحته قائلا: لو قرأ أحد أفراد الميليشيات في العراق هذا العنوان ورأى أسماءنا، ربما سنتعرض لهجمة إبادة على أيديهم، لأن من الصعب أن تقنعهم بأننا في تلك الفترة سلفية شعرية لا غير، ومع كل هذا فقد بقينا مصرين على أن الشعر الموزون بإمكانه أن يقاوم هذا العصر، وأن فيه زوايا لم تستثمر بعد، فانطلقنا من هذه الزاوية بكتابة نصوصنا الموزونة، وأصدرنا بيانا شعريا حول مجمل تصوراتنا عن قصيدة الشعر وأنماطها، ولكن الآن وأنا أتحدث معك، وقد مرّ أكثر من خمسة عشر عاما على تلك الحادثة، أقول إننا كنا نتصور أننا نخرق الكون بما نكتب، وأننا سنغير كل شيء حالنا حال الحالمين المجانين، أو ما سميته بالمراهقة الثقافية، ولكنها بالنتيجة أصبحت جزءا من تاريخنا الأدبي لا أكثر، لأنني الآن أنظر إلى تجاور كل الأشكال الشعرية التي كانت متنافرة في نظري، وهذا ناتج بحكم العمر والتجربة قطعا.
■ من يقرأ مدوناتك الشعرية الصادرة مؤخرا، يقرأ لغة سردية خاصة بك، تستمد رؤاها الفلسفية من نظرة خاصة عميقة للدين والموت والحياة، وتثير الكثير من الأسئلة الوجودية، ما يشي بدواخل عاصفة، فما الذي يسعى الشاعر للإجابة عنه من خلال هذه المدونات؟
□ أولا في دواويني المتأخرة «جرة أسئلة» و«مدونات»، لا أسعى أبدا في كل الأسئلة التي طرحت في النصوص عن إجابات، فأحلى الأسئلة وأهمها تلك التي تتيه بها بدون إجابة، إنما حاجة الشعر إلى السؤال كحاجتنا إلى الحب أو الهواء، فالشعر بلا أسئلة هو عبارة عن انثيالات عاطفية وجدانية تقترب من المناخات الرومانسية والغنائية، لذلك فإن هذه التجربة كما عدّها عدد من النقاد وأشاروا لها بوضوح إنها انتقالة من مرحلة الغنائية إلى مرحلة الدرامية، وملامسة هموم الحداثة الشعرية في نصوص تعبر عن قلق هذا العالم وارتباكه، لذلك كانت نصوصي الأخيرة استجابة واعية وغير واعية لهذه الارتباكات في حياتنا الدينية والاجتماعية والسياسية، علما بأني لا أطمح لأن أكون مفكرا أو أستاذا يطرح الأسئلة، إنما همي أن تكون أسئلتي شعرية لا أكثر، وهناك جملة أحببتها لأحد أصدقائي كُتّاب القصة العراقيين اسمه صلاح زنكنة حين قرأ مجموعتي «جرَّة أسئلة» قال إن عارف «جمع ما بين الوجود والوجدان» شعرت بأنه اختصر بهذه الجملة كثيرا من أحاديث النقاد.
■ يختلف مفهوم الحداثة تعريفا من شاعر لآخر حسب رؤية الشاعر وثقافته فما مفهوم الحداثة من زاوية نظرك؟
□ لا توجد لدينا حداثة واحدة على الإطلاق فكلٌّ له نافذته التي ينظر من خلالها للحداثة كمفهوم أو سلوك حياتي، علما أنها كمصطلح ومفهوم فهي بنت الثقافة الغربية، وكانت ثورة ضد الكنيسة، والحداثة في تلك النقطة لا علاقة لها بالشعر أو الإبداع، إنما كانت لحظة الفصل بين الدين والدولة، هي لحظة الحداثة الجوهرية في أوروبا، ودخول الصناعة وهيمنتها على البشر، ومن ثم تحولت الحداثة من النص إلى الحياة، لذلك حين يتحدث الغرب عن الحداثة في الشعر أو النقد من حيث المناهج النقدية فإنهم يتحدثون بثقة عالية، ذلك أن الحداثة عندهم لم تنزل من السماء، إنما انبثقت من أراضيهم من الدين والسياسة والمجتمع والسكن والعلاقات الاجتماعية وغيرها، حتى وصلت إلى النص الأدبي الذي تبنى الحداثة أكثر من أي جنس آخر في الحياة، أما نحن العرب فقد قضمنا الثمار جاهزة فبدأنا نكتب في الحداثة، ونحن ما زلنا في حكومات لا تؤمن بالتبادل السلمي للسلطة، وكتبنا الحداثة فيما علاقاتنا الاجتماعية مازالت علاقات بدوية وقروية وتعاملنا مع الآخر ما زال مثل تعامل أجدادنا ننصر أبناء القبيلة، ثم خيبة الأمل الكبرى لمشروع الحداثة العربية، الذي مرت عليه أكثر من خمسة عقود من التنوير والكتابة، إننا نفاجأ أن المجتمعات العربية تنتكس وتدور في مستنقع الطائفية والمذهبية فأين الحداثة من كل هذا؟ علما ضمن المنظور الغربي للحداثة النصية فإن لكل أمة من الأمم حداثتها المناسبة لها، فأبو نؤاس قطعا كان حداثيا حين تقرنه بجيله، وكذلك أبو تمام والمعري. أما رؤيتي الخاصة للحداثة فأنا أرى أن ما يكتب من نصوص فيها جمالية عالية فإنها ليست من نتاج الحداثة، إنما هو إبداع أدبي عال قد يستثمر تقانات الغرب في الكتابة، ونجح في الكثير منها، ولكنها أقصد الحداثة لن تكون صالحة للزراعة في تربتنا العربية إلا بعد جملة عوامل يقف الماضي على رأسها.
■ ألا ترى أننا في حاجة إلى تجديد مفاهيم نقد الشعر لتتماشى مع الشعر المعاصر، بحيث تتحرر من المفاهيم النقدية الكلاسيكية للشعرية العربية التي ما زالت مسيطرة على الذهنية النقدية العربية؟
□ المأزق الذي نحن فيه هو مأزق نقدي أكثر منه شعريا، للأسف فإن النقد الأدبي شغلته قضايا كثيرة أسهمت بانحراف زاوية نظره من النص الإبداعي الأصلي، إلى النظر إلى نفسه أكثر من غيرها. فالنقد يراجع مناهجه ومصطلحاته ومفاهيمه ولغته النقدية وأعلامه النقاد، والكثير من المحاور التي تخص حقل النقد فقط، بدون الالتفات إلى مهمته الأساسية، وهي مراجعة النصوص الإبداعية ومقاربتها جماليا. كما أسهمت المناهج النقدية الحديثة ــ حين ابتعدت عن الحكم المعياري ـ في أن تتساوى جميع النصوص الرديئة والجيدة كلها تحت مبضع البنيوي والأسلوبي والتفكيكي، فما دام الحكم قد اختفى فإن جميع النصوص متساوية، لذا فإن النقد يعاني من أزمة داخلية في أنه يتصارع لأجل إثبات نفسه بأنه لا يفرق عن الشعر أو السرد، وأنه جنس لا يقل عنهما. في حين يرى آخرون أنه علم له أدواته الخاصة التي تقارب النصوص الإبداعية. وهؤلاء أقرب إلى كُتَّاب التعاويذ الذين لا تفهم من كتاباتهم شيئا.
■ يحاول الشعراء الشباب العراقيون ابتكار حالة حداثية خاصة بهم، كيف تنظر إلى هذه المحاولة؟
□ قطعا الشاعر العراقي الشاب الذي يظهر في كل جيل من الأجيال، وبالأخص الأجيال التي ظهرت ما بعد الريادة، فإنه يشعر بثقل كبير يرقد فوقه وبمسؤولية مهمة لابد من استشعارها بأنه وريث لانطلاق الجديد الشعري العربي، لذا عليه أن يكون قدر هذه الأحلام والتحولات، وإن لم يستشعر هذا الإحساس بمسؤوليته إزاء الشعر العربي كله فإنه سيكون رقما من الأرقام التي تأتي وتذهب بدون أثر وأهمية. لهذا أرى أن كل جيل ظهر بعد السياب حاول أن يجترح له خصوصية تمثله في الاختلاف والتجاوز عن الجيل الذي سبقه، وقد صارت أشبه بالسُنّة الشعرية لدى كل جيل في أن يختلف عن الجيل الذي سبقه، حتى إن كان أقل منه إبداعا. المهم ألا يشبهه. وهذه مسألة مهمة جدا، والحديث في هذا الموضوع طويل، لأن لكل جيل شعري في العراق خصوصية مختلفة وبصمة خاصة به، وهذا الأمر لا يختلف وإن بنسب متفاوتة عن الأجيال الشعرية في البلدان العربية، ولكنه في العراق حاله حال مناخه الساخن واحتدامه الدائم، فإن شعراءه محتدمون دائما.
■ كيف تقرأ واقع النشر العشوائي الذي يعصف بساحتنا الثقافية؟ وعلى عاتق من تقع المسؤولية، على الناشرين، أم الكُتاب؟
□ أولا نحن افتقدنا الناشر المثقف الذي يهمه النوع ويصر عليه – على الرغم من الاستثناءات لدى بعض الناشرين- ولهذا ظهرت طبقة من التجار لا الناشرين، والتاجر لا يهمه النوع إطلاقا، فما دام الشاعر أو الكاتب من يدفع أجور طباعة أعماله، فلا ضير في الطباعة لكل من هب ودب، حاله حال المطربين الذين يسجلون أغانيهم على حسابهم الخاص فلا أحد يستطيع منعهم، فضلا عن ذلك تراجع فكرة الكتاب نفسه في العالم العربي وبالأخص الشعري، ففي آخر الإحصائيات أن الكتاب الشعري يقع في آخر طلبات القراء لسهولة الحصول على أي نص ولأي شاعر من خلال مواقع الإنترنت، التي قصت الكثير من أظافر الكتب وكُتّابها.

(القدس العربي)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى