المغربي العربي بنجلون في متعة الرحلة وأدبها

عاطف محمد عبد المجيد

هناك نوع من الكتب، يطير بك، ثم يحط في أماكن لم تطأها قدماك، من دون أن تبرح موضعك. مِن هذه الكتب «أنْ تُسافر» للمغربي العربي بنجلّون (الهيئة المصرية العامة للكتاب). يضع بنجلون (1947) بين أيدينا نزراً يسيراً من جملة أسفار ورحلات قام بها إلى الدول العربية والغربية والآسيوية، ولم يُدرج في كتابه إلا ما سنحت له الظروف بكتابته، مُرجعاً الفضل في كتابة هذه الرحلات إلى أصدقائه الذين حضوه على سردها ونشرها في كتاب، بعد أن قرأوا بعضها في سيرته الذاتية. لم يحاول أن يكرر التجارب الماضية في هذا الجنس السردي الأثير، بخاصة تلك التي ارتكزت على دواعي الرحلة، وما رآه الرحالة من آثار وحضارة وعمران، وتطور ورُقيّ في المجالات والميادين كافة، والعوائق والعراقيل التي صادفها في طريقه، حتى أصبحت الرحلات تَوائم، كأن بعضها يستنسخ بعضاً. كذلك لا يدّعي الكاتب أنه أتى هنا بما لم يأتِ به الأوائل، غير أنه التقط في هذه الكتابة ما وقف عليه وشاهده بعينه فتحدث عنه ودوَّنه، مُركّزاً على إقامته في ديار الغربة، وما لفت نظره سواء في السلوك البشري أو في طبيعة البلد المختلفة عن بلده، محاولاً ألا يُفرط في شيء. لقد اكتشف بنجلون في عز شبابه متعة الرحلة ولذّتها، وما يمكنه أن يجنيه من فوائد ومقاصد ثقافية، أغنت تجربته الحياتية والكتابية، وشكلت تضاريس شخصيته، ما جعله دائماً على أهبة السفر يحمل حقيبته وينتقل بين الدول، تارة من تلقاء نفسه وتارة بدعوة من جهات ثقافية، حتى تراكمت لديه أسفار ورحلات شتى، التقى فيها شخصيات أدبية، وشاهد آثاراً وحضارات موغلة في التاريخ البشري، وساهم في ندوات ولقاءات ثقافية عرَّف خلالها بالأدب المغربي حيناً، وبالعربي حيناً آخر، وساهم في تأسيس مجلات للأطفال في بعض الدول العربية. كتب بنجلون بعض هذه الأسفار وهو لا يزال في المكان الذي ذهب إليه، وبعضها كتبها بعد أن عاد إلى أرض وطنه مُنقّباً بين ثنايا ذاكرته، وإن كانت الذاكرة تخدع أحياناً، مؤكداً أن كل ما كتبه هنا لا يبتعد كثيراً أو قليلاً من الحقيقة والموضوعية. هنا يذكر الكاتب أنه على رغم أن الرحلة ظهرت منذ ظهور الإنسان على سطح الأرض، فإنها كجنس أدبي جديد نسبياً، مقارنةً بالأجناس الأخرى. أما الرحلة، وكما يعرّفها بنجلون، فهي فن سردي يتخذ من السفر موضوعاً له، وليس تدويناً تاريخياً وجغرافياً صرْفاً بعيداً مِن الأدبية، كما يبلور رؤية الرحالة التي تلتقط ما يميز البلد المقصود بأسلوب غني له خصائصه التي تقرن السرد القصصي بالسيري وبالاجتماعي والمعرفي والجغرافي والتاريخي حيث تتداخل فيه صيغ أسلوبية متنوعة ومختلفة. وبما أنه مارس هذه الكتابة، وأحس فيها بمتعة، فإنه لا يساير الذين عدّوها مقالة ترتكز على العقل والفكر الخطابي، وتُنحّي عنها المتخيل السردي، أي القصة والرواية والشعر، أو الذين عدّوها خطاباً هجيناً، لأنه يعتبر تبنيها للأجناس السردية تحرراً من قيد الجنس ذاته. غير أنه يعود ليقول إن الرحلة تظل فناً عصياً على التنظير والتجنيس لأنها عالم شاسع لا حدود له، يرحل إليه الإنسان دائماً ليكتشف مجاهيله وأدغاله. في «أن تسافر» يكتب بنجلون عن سفره إلى الإسكندرية التي كانت أول مدينة مشرقية زارها، ذاكراً أن الفضل يعود في رحلاته المتتالية لمصر ولدول مشرقية أخرى إلى هذه الرحلة الأولى. يصف الإسكندرية بأنها «من المدن السخية التي تستقبلك بحضنها الحنون، لأنها كانت وما زالت مفتوحة على العالم، سواء عبر البحر أو عبر البر، وهي أقرب المدن الشرقية إلى المغرب العربي»، مؤكداً أنها ستظل حبه الأول؛ «ما دام الإنسان الإسكندراني، الواعي بعروبته وإنسانيته، يحرسها، وما دامت مكتبتها ترفد الجيل تلو الجيل بما تجود به القرائح من أعمال الفكر والأدب لتبني الإنسان فينا».
هنا أيضاً يكتب بنجلون عن رحلته إلى ليبيا التي لم يرُق له فيها إلا شيئان أولهما أنه كان يتسكع بين الدروب والأزقة العتيقة في مدينة طرابلس في شكل يومي، والثاني هو قسمه باليمين المغلظة على أن يزور مدينة صبراتة التي لا تبعد من غرب طرابلس إلا بسبعة وستين كليومتراً، وتطل على البحر المتوسط وتتربع سهل جفارة. أيضاً يسجل الكاتب وقائع رحلته إلى الأردن متحدثاً عن مقاهيها ومطاعمها؛ «التي لا يقتصر دورها على ملء البطون وحشوها بما لذ وطاب، وإنما يتخطاها إلى اللقاءات الثقافية والقراءات في مكتبات خاصة توفرها في أحد أجنحتها، وتزين جدرانها صور شخصيات فكرية وسياسية وفنية عالمية، ولوحات زيتية وتحف عتيقة، بل إن قائمة الأطعمة والأشربة تحتوي على قصائد شعرية غالباً، لمحمود درويش، مظفر النواب، مريد البرغوثي، وأحمد مطر».

(الحياة)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى