بعدما فقدت براءتها وتحولت إلى قوة اجتماعية: هل ستكون الصوفية قدرنا ؟

محمد تركي الربيعو

حظي مفهوم السوق الدينية في العقود القليلة الماضية باهتمام كبير من قبل الباحثين في سوسيولوجيا الدين، وحتى من قبل بعض السياسيين، ويرى السوسيولوجي الأمريكي أنطوني جيل في كتابه «الأصول السياسية للحرية الدينية» أن هذا المفهوم لا يعدّ جديداً؛ إذ يرى أن عالم الاقتصاد الأسكتلندي آدم سميث طرح هذا المفهوم في كتابه «ثروة الأمم»، من خلال النظر إلى القوانين المنظمة للسلوك الديني للأفراد والمؤسسات، كقوانين مشابهة للقوانين المنظمة للإعانات المالية الزراعية والتجارة الحرة للحبوب؛ ورغم هذه الجذور التاريخية للمفهوم، إلا أنه لا يمكن تجاهل أنه بات أكثر تداولاً ورسوخاً داخل الأوساط البحثية الأنكلوسكسونية، كما أنه بات يحظى باهتمام موازٍ لهذا الاهتمام داخل بعض الأوساط البحثية الفرانكفونية؛ خاصة مع دراسات أستاذ الأنثربولوجيا السياسية أوليفيه روا، بالأخص مع كتابه «الجهل المقدس: زمن دين بلا ثقافة»، وأيضاً مع كتابات الباحث الفرنسي باتريك هايني حول إسلام السوق (رغم الاختلاف في النتائج)؛ إذ بقي هايني يسعى من خلال اعتماده على مفهوم السوق الدينية إلى «التبشير» بأشكال جديدة من البرجزة الإسلامية أو«إسلام البزنس»، على حد تعبير صادق جلال العظم، وهو الإسلام الأكثر عقلانية وانفتاحاً مقارنة بالأشكال «العتيقة» من حركات الإسلام الإحيائي.
في حين يرى أوليفيه روا أن مفهوم السوق هذا، المقتبس عن الاقتصاد، يطرح رؤية مفادها أن العولمة خلقت سوقاً عالمياً للديني، وبالتالي بات الكلام يدور عن أناس «مستهلكين» لديهم طلب تتعين تلبيته بصدد الحاجات الروحية، وفي ظل العولمة، يجد هؤلاء أمامهم تشكيلة من المنتجات المتنوعة وسهلة المنال، كما أن ما بات يميز هذه المنتجات، أن الحصول عليها ما عاد يتطلب العودة إلى المؤسسات التقليدية، بل أخذت تنتقل بفضل ناقلات تقنية عالمية: إذاعات، إنترنت، شبكات تلفزيونية. وفي هذه السوق، بإمكان الفرد أخذ ما يشاء عبر هذه الوسائط الجديدة، ومن ثم يخلق لنفسه توليفة جديدة من الرموز الدينية الخاصة به، بيد أن هذه التوليفة غالباً ما تتسم بأنها مكوّنة من عناصر ثقافية منزوعة الذاكرة، لكونها منقطعة عن تربتها الأصلية والروحية التي خُلِقت فيها (في ظل عولمة هذه الرموز). وهنا لا بد من أن نشير إلى أن اهتمام روا بهذه النظرية الجديدة حول السوق الدينية، جاء في سياق دعم رؤيته السابقة التي طرحها في كتابه «فشل الإسلام السياسي»، وذلك عندما تحدث عن زمن السلفية الجديدة.
يعتقد روا أنه في ظل قصر ذاكرة هذه الرموز، وانقطاعها عن تربتها الروحية، فإن هذه السوق تحفّز على انبعاث طهورية أو سلفية جديدة «زمن دين بلا ثقافة ولا ذاكرة»، لتعلب دوراً جديداً على صعيد المجال العام المعولم، وهذا امتداد لرؤيته السابقة حول بروز السلفية الجديدة، كبديل عن فشل تجربة الإسلام السياسي مع نهاية التسعينيات من القرن المنصرم، وجاء لاحقاً الباحث المصري الراحل حسام تمام ليؤكد عليها في واقع المدينة العربية، عندما تحدث عما دعاه بـ«تسلّف الإخوان» في مصر، وأن الزمن المقبل هو زمن السلفية بامتياز.
وفي سياق الكتاب الجديد لاريس جوفروا (أستاذ في معهد الدراسات العربية والإسلامية في جامعة ستراسبورغ ـ فرنسا) «المستقبل للإسلام الروحاني» ترجمة هاشم صالح. يوافق أريس على رؤية روا السابقة حول ما يتعلق بولادة سوق دينية جديدة، أو بالأحرى سوق «لترقيع العقائد» على حد تعبيره، عبر الأخذ من كل دين ما يعجبنا أو يناسبنا، وتشكيل توليفة من كل الأديان، وهو ما يعني تذرية الإيمان وتأكيد البحث الفردي عنه. مع ذلك يرى جوفروا أن الميل إلى السلفية هو ميل مؤقت (شهقة المحتضر)، وأن الحياة الجديدة أخذت تفرض علينا العودة إلى النزعة الروحية (أو الصوفية التي يرى أنها كلمة باتت مبتذلة في الوقت الراهن من كثر الاستخدام) كي تقاوم الميل الطبيعي للإنسان نحو المبالغة الأنانية والنزعة المادية والعقلانية الضيقة. ولذلك وحسب جوفروا فإن أشكالاً جديدة ًمن الروحانية معروفة وغير معروفة سوف تظهر قريباً. وفي هذا الشأن، يشير إلى الجاذبية التي أخذت الصوفية تمارسها على الغرب، خاصة في تجلياتها الفنية، رغم أنها لا تنجو من المنطق التجاري والاستهلاكي. إذ ترجمت مؤلفات إدريس شاه الصوفي ذي الأصل الهندي المقيم في بريطانيا (من عام 1996) إلى اثنتي عشرة لغة. كما تتزايد ترجمات كتب ابن عربي والدراسات المؤلفة عنه في الغرب واليابان أكثر فأكثر على حد سواء. كما بات الشاعر جلال الدين الرومي من أكثر الشعراء المقروئين اليوم في الولايات المتحدة الأمريكية. وتقوم حجة جوفروا في هذا التنبؤ (زمن الروحانية أو الصوفية) على فكرة أن إحدى سمات العولمة الحالية هي تسريع الزمن، أو على الأقل هذا هو الانطباع الذي يتشكّل لدينا عنها. وظاهرة الإحساس المتسارع بالزمن تتشكل على قاعدة أسطورة ما هو «جديد» أو «مستحدث غير معروف سابقاً».
وفي ظل هذا الواقع الجديد، فإن الفكر الصوفي قادر على مواجهة هذا الواقع الجديد، فشعار الصوفي في الحياة هو أن يكون ابن اللحظة أو ابن عصره. كما أنه يعتبر نفسه صدى للإيحاء القرآني الذي يقول «كل يوم هو في شان»، كما أن اللحظة عند الصوفيين تتطابق مع الوضع الروحي الذي يجدون أنفسهم فيه أو بالأحرى الذي يضعهم الله فيه. وبالتالي فهم لا يقيمون أي وزن للماضي أو للمستقبل – وفق ما يراه- بل يهتمون فقط بالحضور الإلهي الذي هو في لحظتنا المعاشة، من لون عصرنا وحداثتنا المعولمة، بل يتوافق مع عصر ما بعد الحداثة. بمعنى أن الحضور الإلهي يتخذ شكل اللحظة المعاشة هنا والآن وليس مسجوناً أو مجمداً في لحظة ما في الماضي كما تعتقد السلفية. وعلى هذا المستوى من التصالح مع اللحظة الراهنة سيكون من الخطأ وطمس الحقيقة والجحود – وفقاً للكاتب- أن ننكر أن الحداثة ليست نعمة إلهية وليست حالة من السيولة العدمية، كما لمح إلى ذلك بعض نقّاد الحداثة. ولكن أي مساعدة، أو أي تغذية روحية يمكن أن ننتظرها من التصوف التاريخي الإسلامي الذي طالما هُوجم في صيغته الطرقية على وجه الخصوص؟
في هذا السياق، يرى جوفروا أنه في العالم الإسلامي، بل حتى في الغرب، لا ينجو المشهد السياسي المعاصر مما يمكن أن يبدو وكأنه عملية «سطو» على الصوفية. فالفكرة السائدة صراحةً أو ضمناً لدى العديد من قادة البلدان العربية بشكل خاص هي أن الصوفية يمكن أن تستخدم كترياق ضد سموم مختلف الحركات الأصولية المتطرفة، أو كل الأيديولوجيات التي تستخدم الدين لأغراض سياسية. من جهة أخرى نلاحظ أن بعض المثقفين في الغرب يحاولون أيضاً التلاعب بالصوفية، من أجل أن يقدموا للجمهور إسلاماً مخفّفاً أو معتدلاً يمكن التعامل معه. مع ذلك يرى الأخير أن الإشكالية مع التصوّف ومدارسه لا تكمن في هذا الجانب بالذات – بدون أن ننفي تأثيراته الجانبية وبدون القبول كذلك بالاتهامات التي تُكال للصوفيين بوصفهم عملاء للسلطة- بل إن الإشكالية الأساسية التي قد تعيق أي دور جديد للتصوف تكمن في مدى قدرته على التأسيس لفترة «ما بعد الزاوية أو الطريقة». فالصوفية التي كانت تمثّل في البداية طاقةً روحية، قد اضطرت لتقديم التنازلات إلى هذه الطبيعة البشرية ذاتها داخل أطر محصورة أكثر فأكثر سوسيولوجياً ومؤسساتياً. وهذا يعني أنها فقدت من براءتها أو طاقتها الروحية بعد أن تحولت إلى قوة اجتماعية ومؤسساتية. وقد نتج عن ذلك أن الصوفية الطرقية، سقطت هي الأخرى أيضاً في فخ الطقوسية الشعائرية أو«الأصولية الروحانية».
كما أن التعاليم الإسلامية التي كانت تُلقى على التلاميذ في الزوايا قد تحولت في نهاية المطاف إلى تعليم روتيني ومحافظ. وبالتالي فإن الطرق الصوفية بحاجة إلى إصلاح جديد اليوم، وهو إصلاح يقوم على تجاوز فكرة الروتين التي هي العدو اللدود لأي بعد روحاني؛ وهنا لا يشكك الكاتب بقدرة الطرق الصوفية على القيام بهذا الإصلاح، كما فعلت في المنعطف الكائن بين القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، بدون أن يعني هذا الإصلاح أيضاً رفض التراث الصوفي الضخم والعظيم، بمقدار ما يعني العمل على إعادة استيعاب خلاصته وجوهره كي نتمكن من فهمه بشكل أفضل.

(القدس العربي)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى