القصة القصيرة في العالم العربي: ما بين التهميش النقدي وغياب القراء

موسى إبراهيم أبو رياش

تعاني القصة القصيرة من أزمة حقيقية، يلمسها كل مشتغل ومهتم بالكتابة الإبداعية، فعلى الرغم من وجود كم كبير من المجموعات القصصية على رفوف المكتبات العامة والتجارية، إلا أن اهتمام القراء محدود جداً بها، فالأولوية للرواية، كما انحاز النقاد لتناول الروايات والكتابة عنها، فهي موضة العصر، وسيدة الرفوف، وحلم كل كاتب أن يقال إنه روائي.
يقول البعض بموت القصة القصيرة أو أفولها، أو انتفاء الحاجة إليها واستنفاد أغراضها، وكل هذه اجتهادات أو آراء لا تصمد أمام حقيقة أن الأجناس الإبداعية، ومنها القصة القصيرة، تتجدد وتتطور، لكنها لا تموت. قد تتراجع، تكسد، تتوارى، تفقد بريقها، لكنها تبقى حاضرة في المشهد الإبداعي، رقماً لا يمكن تجاوزه. فللقصة عشاقها وكتابها المخلصون لها، ليس تعصباً، ولكن لأنهم يجدون فيها المتعة والجمال والقدرة الفائقة على التعبير عن مكنونات النفس، ولا يجدون أنفسهم إلا من خلالها. حول هذا الموضوع وجهنا السؤال التالي إلى مجموعة من المهتمين والمشتغلين بهذا الفن الرفيع: «ما أسباب تراجع القصة القصيرة ومحدودية مقروئيتها وانتشارها؟» فكانت هذه الشهادات:

«الإنقياد لجمالية اللغة وشعرنتها
على حساب البناء الفني، يسهم
في قلة متذوقي القصة القصيرة وقرائها»
حنان بيروتي/ قاصة من الأردن

قضية تراجع القصة القصيرة تشخيصٌ للحالة الراهنة، ولا يمس مكانة هذا الفن الذي لا يموت لأنّه فن الحياة، ففي ظل الظروف المتأزمة وثقل الواقع المعيش الممتلئ بالانتكاسات الخطيرة والاختراقات للروح وللضمير الجمعي العربيّ والإنسانيّ، نجد الرواية تتسيَّد المشهد، وتشكل واحةً في هجير الواقع وملاذًا للروح المثقلة، بينما القصة تشبه ظل شُجيرة في صحراء، فالرواية تحفل بالتفاصيل والرؤى، والقصة تكتفي بالتلميح والالتقاط، إضافة لانتشار شبكات التواصل الاجتماعي، وطبيعة الحياة المعاصرة اللاهثة جعل الومضة تزدهر في العالم الافتراضي والرواية تتسيَّد المشهد الثقافي الواقعي. ولأنَّ فن القصة مطواع وقابل للتعايش والتأقلم، مثل نبتة صحراوية نجدها تتقبل التجريب والتجديد الذي لا يتخذ المنحى الإيجابي دائما؛ ثمة تغريب وإغراق في الغموض وتخـــلخل في البنية الفنية لهذا الفن السهل الممتنع، وعدم تمكن من الجملة القصصية المحكمة المتطلِبِّة التخلص من أدران اللغة، وتشذيب النص القصصي من المفردات الفائضة عن البنية الفنية، وعدم الانقياد لجمالية اللغة وشعرنتها على حساب البناء الفني، كلّ ذلك يسهم في قلة متذوقيها وقرائها. تراجع القصة لا يفقدها مساحتها الإبداعية لكن نجد أنّ القصة الناجحة المحكمة البناء الفني والمجددة في تناولها الفكرة، التي تحترم عقلية القارئ الذكي، الذي تتفتح أمامه أبواب الاطــــلاع وتتجاذب اهتمامه الشاشات الآسرة الساحرة والشذرات والومضات المحملة بالدهشة السريعة الممتعة، والحكايات الواقعية والأخبار إلخ، تنجح في اجتذاب القارئ العجول في زمن اللهاث المعاصر.

«تراجع الصحافة الورقية أدى
إلى تراجع القصة القصيرة»
باسم سليمان/ قاص وروائي من سوريا

فقدت القصة وريدها وشريانها، ما أدّى إلى تراجعها، أمّا وريدها، فهو الصحافة الورقية، التي بدأت تتراجع منذ بداية الألفية الثالثة، فقد عملت الصحافة الورقية على تقديم جسر شبه يومي يربط القارئ بالقصة، بعيدًا عن بنية الكِتاب/المجموعة القصصية. ومع انحسارها تداعت البنية السردية التي طورتها القصة في القرون الثلاثة الأخيرة، خاصة ابتعادها عن الحكائية/الصائتة لصالح القص/الصامت، الذي يعتمد على قراءة العين والتأمل، في حين كانت الحكائية/الصائتة تعتمد على الحدس/الحكمة والسماع والتفاعل المباشر، بينما يناقض القص الحديث جوهر الحكائية، وإن لم يلغها، فالحكائية تعتمد الاستقراء الحدسي في حين تعتمد القصصية على الاستنتاج التأملي، وهذا الأخير أمّنته الصحافة الورقية التي أصبحت بديلًا عن الحكواتي، ومع غيابها الكبير وانقراض النمط القرائي الذي أشاعته بين القرّاء، لم يردم هذه الفجوة الكِتاب/المجموعة القصصية وذلك على عكس الرواية التي استثمرت في الكتاب منذ نشوئها، فشريان القصة الحديثة المتمثل بالسرد الصامت التأملي والمدعوم من الصحافة قُطع بغيابها، هكذا تعرضت القصة إلى نكستين متتاليتين، زاد من تأثيرهما التسونامي الروائي، سواء لدى الكتّاب والقرّاء وانفتاح النص الشعري على غيره من الأجناس الفنية، خاصة القصة التي امتصّ طاقتها، ومع خسارة القصة هيكلها وجوهرها أصبح من المحتّم تطوير أسلوبها ومواضيعها على صعيد الشكل والمضمون، حتى تعود إلى المنافسة. وما يحدث على الساحة الأدبية من محاولات إنعاش القصة، سواء بالجوائز والمهرجانات، ما هو إلّا محاولات بائسة لن تؤتي ثمارها ما لم يتم التغيير الجذري على صعيد فن القصة.

«انجذاب الإنسان… للرواية
جاء على حساب القصة القصيرة»
طالب الرفاعي/ قاص وروائي من الكويت
رئيس جائزة الملتقى للقصة القصيرة العربية

صيغة السؤال تشير إلى مقارنة بين واقع القصة القصيرة راهناً، وما كانت عليه في الستينيات والسبعينيات وحتى منتصف الثمانينيات. وهنا يمكن القول بأن تلك الفترة، في الكثير من دول العالم وكذلك أقطار الوطن العربي، كانت فترة زخم سياسي وحزبي كبيرين، وكانت عامرة بالشعارات العريضة والآمال. ولأن الفنون والآداب، هي وجه عاكس للحراك الاجتماعي في أي مجتمع من المجتمعات. وبالنظر إلى طبيعة جنس القصة القصيرة، باحتوائها على حدث رئيسي واحد، وقصر مساحتها، وإيحاء كلماتها وعباراتها، فلقد كانت الأكثر ملاءمة لأجواء وعوالم تلك الفترة. لكن، لسيطرة التقنية على عوالم الغرب، وانتشار ظاهرة القلق، وجدَ الإنسان نفسه مشدوداً لما يعطي يومه الراكض شيئاً من حياة يتمنى لو عاش مغامرتها، وهنا جاءت الانتقالة الأكبر لجنس الرواية.
انجذاب الإنسان في الغرب أولاً، ولاحقاً في عموم أقطار المعمورة للرواية، جاء على حساب القصة القصيرة، وهذا ما انسحب على الكاتب والناشر وجمهور القراءة. وإذا ما أضيفت لذلك الجوائز، فإن هذا مجتمعاً أقصى القصة، وأعلى يوماً بعد يوم من انتشار وحضور الرواية، وجعلها الزاد الأطيب على مائدة الإبداع الإنساني. ما تجدر الإشارة إليه، أن هناك رجوعاً ملحوظاً في أمريكا ودول أوروبا لجنس القصة القصيرة، ويمكن رؤية ذلك واضحاً في بوصلة جوائز نوبل للآداب في سنواتها الأخيرة. وربما بسبب من عشقي الشخصي لفن القصة القصيرة، فإنني في «الملتقى الثقافي» وبالتعاون مع الجامعة الأمريكية في الكويت أطلقت عام 2015 «جائزة الملتقى للقصة القصيرة العربية». وكانت فرحتنا كبيرة بأن لاقت الجائزة ترحيباً واسعاً بين الكتّاب العرب، وفي الكثير من البلدان العربية.

«القصة القصيرة لا تقبل الكتابة السهلة المجانية»
عزالدين ميرغني/ قاص وناقد من السودان

تراجعت القصة القصيرة كثيراً في السنوات الأخيرة، خاصة في العالم العربي، لعدة أسباب منها: طغيان الجوائز التي تقدم باسم الرواية مثل جائزة البوكر وكتارا، وحتى جائزة نوبل. وتقل الجوائز التي تقوم على المنافسة في القصة القصيرة فقط، وهذا ما جعل البعض، خاصة من الشباب يسعون للشهرة التي تجلبها لهم كتابة الرواية حـــــتى في خارج عالم الجوائز. فالرواية الجيدة سريعة الانتشار، بل قد يتداول القراء اسمها ويحفظونه حفظاً. كذلك القصة القصيرة لا تقبل الكتابة السهلة المجانية رغم قصرها، فهي تحتاج إلى لغة مقتصدة ومكثفة، وموضوعاتها جديدة وليست مستنسخة أو مكررة، وهذا يحتاج إلى فن الالتقاط الجمالي اليومي المرتبط بواقع الحياة اليومية.
«المسابقات معظمها روائية»
آية سعد الدين/ قاصة من مصر

من أسباب تراجع القصة القصيرة هو اهتمام دور النشر بإصدار الروايات بشكل أوسع من المجموعات القصصية، والمسابقات معظمها روائية أيضاً، واتجاه الكثير من الشباب لقراءة الروايات الطويلة؛ بحثاً عن المتعة المستمرة لوقت أطول ومتسلسل، عكس القصة القصيرة التي تنتهي سريعاً.

«ما يتهدد القصة القصيرة هو ضعف
الكثير من الكتاب، وهيمنة التجريب…
واللجوء إلى الأشكال السيريالية»
إبراهيم خليل/ ناقد وأكاديمي من الأردن

القول بأن القصة القصيرة تتراجع، وإن أعداد من يقبلون على قراءتها في انحسار دائم، قول يحتاج إلى قرائن؛ فلا يوجد لدينا دليل على أن القراء ينصرفون عن قراءة القصص القصيرة، وليس لدينا دليل على عكس ذلك. ومن الملاحظ أن الإقبال على القراءة يتراجع عموماً، فلا يقرأ الناس في هذه الأيام وفقاً للتقدير المفتقر للإحصائيات الشعر، وحتى الرواية التي يقال إنها الآن تزاحم غيرها من الفنون الأدبية مزاحمة تدفع ببعضهم إلى القول في ما يشبه اليقين إن الرواية هي ديوان العرب لا تقرأ. كما لا يقبل القراء على قراءة المسرحية، أو المقالات، أو المؤلفات الأدبية الأخرى، من سير، وسير ذاتية، ويوميات ومذكرات. وقد يعزى هذا إلى المزاج العام الذي يتأثر تأثراً سلبياً بوسائل الاتصال من صحافة إلكترونية، ومواقع تواصل اجتماعي، ومن مشاهدة الأفلام، والمسلسلات التلفزيونية التي تقدم لهم ثقافة ترفيهية سريعة لا يتطلب التواصل معها جهداً. فالظاهر أن الناس باتوا يميلون للراحة بطريقة تنحي استخدام العقول والأذهان، وحتى الذاكرة جانباً، والاكتفاء بتلقي ما هو مطلوب عن طريق الهواتف الذكية. حتى الصحافة الورقية اليومية يعزف الكثيرون عن متابعتها، فمن كان يقرأ ثلاث جرائد يومياً أصبح يكتفي بواحدة، وقد يعتمد على الإنترنت فيتصفح الجريدة بسرعة بدون أن يتوقف عند هذه القصيدة، أو هذا المقال، أو تلك القصة.
وهذا الواقع، على الرغم من أنه مؤسف، لا ينذر بخطر انقراض القصة القصيرة. فما زال للقصة كتاب يواصلون كتابتها، ويواصلون نشر المجموعات، وثمة صحف ومجلات تعنى بالقصص، بل تعنى أيضاً بترجمة الجيد من القصص الأجنبية إلى العربية، وتهتم بالكتابة عن القصص في متابعات نقدية. على أن ما يتهدد القصة القصيرة هو ضعف الكثير من الكتاب، وهيمنة التجريب على بعض القصص، واللجوء إلى الأشكال السريالية التي لا تتواءم أحياناً مع اهتمامات القارئ. زد على هذا ظهور أشكال تجريبية مثل القصة القصيرة جداً، والقصة التوقيع، والقصة الومضة، وأخيرًا طُرح (موال) جديد هو القصة الشاعرة. ولا ريب في أن هذه المحاولات، على الرغم من تقديرنا لنوايا أصحابها الحسنة، تسيء للقصة من حيث أرادوا الإحسان. وليت الكتاب الذين يخلصون لهذا الفن يخوضون التجارب مع الحفاظ على ثوابت القصة؛ من شخصيات، ومن حدث قصصي، ومن تقنيات أخرى تحقق التشويق، ولا تخلو من الأداء اللغوي السليم؛ فالإبداع الجميل لا يمكن أن يتحقق بغير الأداء السليم. وبعد… فإنه بعد سماع الشهادات السابقة نرى أن تراجع القصة القصيرة، هو تراجع مؤقت أقرب إلى إعادة تموضع، وانحناء لعاصفة الرواية، وهذا يُلقي على عاتق كتاب القصة القصيرة مسؤولية كبيرة جداً بالارتقاء بهذا الفن الجميل، والنهوض به، وعدم ترك الساحة لأدعياء القصة القصيرة الذين أفسدوا ذائقة القراء، فأبعدوهم عنها. كما تقع على النقاد مهمة التعريف بالمجموعات القصصية المميزة، وتقديمها للقراء كلوحات إبداعية تستحق القراءة والاهتمام.

(القدس العربي)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى