الذئب مجازاً وجودياً في قصائد إبراهيم نصرالله

محمد علي شمس الدين

يستخدم إبراهيم نصرالله في ديوانه الجديد «الحب شرير- طوق الذئبة في الإلفة والاستذئاب» (المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 2017) مجاز الذئب في مدى جديد ومفاجىء. إنّه لأمر وارد في الشعر القديم والحديث أن يُستخرج من الذئب حالات بشرية، ولكن أن يكون ديوان بكامله «ذئبياً» (إذا صحت العبارة) فهي مسألة أخرى، بحيث يمتدّ مجاز الذئب لدى نصرالله على مئتي صفحة، هي الديوان، وسبع وخمسين قصيدة من قصائده، ما خلا القصيدة الأخيرة الثامنة والخمسين «اشتعالات»، وهي تشكّل خروجاً حلاجياً صوفياً على خط الديوان وروحه، فكأنها روح شعرية أخرى. والريبة التي يبثها عنوان الديوان، وهو عنوان سيء بمعزل عن القصائد. لا تجلوها متون القصائد بل لعلّها تزداد من قصيدة إلى أخرى على امتداد فصليه: «أوبرا الذئاب» و «ظلال الذئبة». وبمقدار ما يبتعد الشاعر عن ذاك النبع الصافي للبساطة الذي تقود إليه حكمة العمر والتجربة، فإن ثمة تعقيدات سيكولوجية ومورفولوجية تنضح من النصوص، وهي نصوص الذأبنة باختصار.
وقد يكون الذئب مظلوماً في مجمل المجاز، حتى أن ابن سيرين، في تفسيره للحلم بالذئب، يورد أنه في المنام «عدو وكذاب وغادر ومكار ومخادع…».
وهو في النتيجة «إنسان شرير»، لكنّ بعض الميتولوجيا والشعر انتبه لنواح تتجاوز الشر في المجاز، بحيث نرى في الميثولوجيا الرومانية القديمة أن ذئبة رمادية هي من رعى التوأمين رومولوس ورموس وكانا طفلين متخلى عنهما، فأرضعتهما في طفولتهما وقاما ببناء روما القديمة عام 753 ق. م وحكماها كما تدل رسوم وتماثيل هذه الذئبة حتى اليوم. وقصيدة «الذئب» للفرزدق تظهر هذا التعاطف مع الذئب في بنية صحراوية يبرّر فيها الجوع الافتراس، فحين أوقد الفرزدق ناره في الليل جاءه «الأطلس العسّال» الرمادي الذي يجر قدميه من الجوع فدعاه ليشاركه زاده: « فلما دنا قلت ادن دونك إنني/ وإياك في زادي لمشتركان». والفرزدق وإن انتهى في قصيدته الى الفخر، الا أن من عادته أن يجير من يلوذ به حتى ولو كان «ذئباً»: «وإنا لنرعى الوحش اّمنة بنا / ويرهبنا ان نغضب الثقلان». وقصيدة «موت الذئب» لألفرد دي فيني ومطلعها: «… جاء الذئب رافعاً رجليه من الأمام» تضرب على وتر الألم والموت والصمت … ما يسميه «دي فيني»، « الأنفة الرواقية»، «لعق الذئب بقايا دم الكلب الذي صرعه ومات بصمت».

التعريف الوحشي للحب
يبدأ إبراهيم نصرالله ديوانه بتعريف وحشيّ للحب. «الحب شرير يلوك القلب»، ويمكن اعتبار كل قصائد الديوان قصائد حب. لكنّه حب سرعان ما يتبادل دوره وتعريفه مع الذئب فيسهل الانتقال من هذا إلى ذاك. حتى أنك تلقائياً حين تقرأ كلمة حب في القصائد، تقرأ معها أو فيها كلمة ذئب. يقول في قصيدة «سبعون روحاً: «لم أدر قبل اليوم أن الحب وحش غامض في ثوب جروة»، ويقول في «متاهة ثانية»: «يسقط الذئب في الحب مثل سقوط الفريسة في لحمه/ ويذوب ويختلط الكون في عظمه».
وإذا أردنا تحميل هذا المنحى المغاير للحب معنى فكرياً أو فلسفياً بعيداً عن المنحى الفقهي الغالب على الهوى بأنه «شرير» وأنه غواية تشد بصاحبها نحو السقوط (من هوى يهوي) فإننا نرجح ميل الشاعر إلى لعودة بالمدينة إلى ما قبلها، والتفكير بطبيعة بلا حضارة. إن هذا التفكير يحمل مباشرة للماضي وللغابة، فكلما اشتدت وطأة التوحش المدني المتمثل بالافتراس بكل أشكاله الطبقية والسياسية، يشتد الحنين للبدائية وكينونتها وكائناتها في الطبيعة، حيث المجتمع هو الغابة، وأول رموزه الذئب. وهذا المرور على التوحش والغابة، نعثر على شواهده في صفحات كثيرة من الديوان، من بينها الصفحات 29 و 48 و 49 و53 و 59 و 61 و 91 و 92 و 93 و 96 وغيرها.
وتبعاً لذلك فإنه يغدو افتراض معنى أنه في البدء كان الذئب أو الحيوان، تيمة إبراهيم نصرالله الشعرية وعتبته للدخول لا إلى الحب وحده بل إلى الوجود بكامله. بل لعله يكتب من خلال الذئب أو الذئبة الروح الوحشية للكائنات ويلجأ إلى استعارة الاستعارة: «أنا ذئبة قلب روح الذئاب / شمالية إن أردت / اندفاع ثلاثين نهراً من الثلج في لحظة / وجنوبية مثل عاصفة تغرس الناب في عنق الأفق سبع ليال / إلى أن ترى الأرض تخضع / والوحش يهرع خوفاً إليها» (من قصيدة «متاهة الذئبة»).
ولو عركنا ماهية هذه القصائد العجيبة لنصرالله، وتوغّلنا في طبقاتها وأسرارها لتجاوزنا قاموسه الذئبي في الحب في أول قصائده على أنه سحق وطاغية ومرض بل حمى بل جريمة، ليتوسع معه رمز الذئبة أو «الذأبنة» لا ليكون أول كل الأشياء وطبيعتها البكر وحسب، بل ليشمل الكون والكواكب والنساء والأطفال والينبوع والشجر والمطر. الذئب الحالم ثم الذئب الهائم والذئب الحنون، إضافة الى الذئب المفترس والذئب الغزال.
تغدو الذأبنة» نظاماً كوكبياً شاملاً وما حظيت امرأة بمثل ما حظيت به ذئبة نصرالله من المديح يهفو إليها القمر والنبع ويصمت العندليب ويشرب عواءها وتغدو الرؤية ذئبة وهي نظام موسيقي يرد لبيتهوفن السمع وتدرج على أصابع البيانو. وفي هذه الاندفاعات الغريزية المتوحشة لشعر نصرالله في الديوان يفاجئك منه في أكثر من موقع تحويل الذئبية إلى فلسفة لغوية. ففي نص «الذئب يكتب قصيدة»، يلجأ الشاعر إلى كلمة «ذئب» ليستنطق كل حرف من حروفها مقطعاً شعرياً يلعب على أوتار الحروف «أول الأبجدية اسمك…» يقول «ذال هنا ذهبي ونبيذي وذهولي» … ويمر بالهمزة: «هي مائي وسمائي» ليصل إلى الباء «باء اسمك قلبي» وهو في قصيدة «لأنها ذئبتي».

الشعر المقطعي النثر
إبراهيم نصرالله شاعر متمرس بالأوزان الحديثة، القائمة على مجزوء بعض الأوزان القديمة، أو على تفعيلة مفردة يتم تكرارها وتستغرق المقطع أو القصيدة. فهو يجري على نواة الكامل في القصيدة الأولى جرياً ليناً. ويكتب عليها قصيدة فذة «الحب شرير»، ويكتمل جمال الكامل في القصيدة الثانية وسواها. وفي قصائده الموزونة على شتى التفعيلات، يستعمل نصرالله ما نسميه تقنية «الشعر المقطعي» وهي تقنية قائمة على استبدال بيت الشعر الكلاسيكي بشطريه الصدر والعجز، بمقطع شعري يطول أو يقصر تبعاً لاندفاعاته في السياق التعبيري. فبدلاً من البيت، هناك المقطع. ولكن لا يفوت الشعر المقطعي ما يسمى في علم العروض، القافية، وتتألف القافية من حرف أساسي ترتكز عليه يعرف بالروي. وهو آخر حرف صحيح ترتكز عليه القصيدة. والقافية هي الحروف المحصورة بين آخر ساكنين في البيت مع المتحرك قبل الساكن الأول. يحافظ إبراهيم نصرالله في القصائد المقطعية على وحدة الوزن والقافية والروي، كما في قصيدة «أحببت طفلاً» فهي تتألف من ثمانية أبيات مقطعية بتفعيلة واحدة (مفاعلن) وقافية واحدة وروي واحد: «الولد الأبد ابتعد…». لكننا نفاجأ بأن قصائد القسم من الديوان المسمى «ظلال الذئبة» هي بمعظمها نثرية، ويغلب عليها وسائر قصائد الديوان التجريد والتجريب والنثرية مؤسسة على التكرار، كل نص ينبني على كلمة محورية (لازمة) مثل «ماذا لو» أو «قصة تكفي»، أو «لو كان عندي طائر بطريق». وهكذا، تتكرر المفردة أول الجملة في مطلع كل مقطع أو سطر. بمثل هذا الترجيع تنكسر أحياناً حدة التجريد وفنتازيا التجريب. ومع ذلك فإن جهد صنعة واضحة، لا يخفى على مجمل القصائد … وإن بعض المفتتحات الشعرية الجميلة للشاعر مثل «لا تؤجل صباحك حتى الضحى» (مثلاً) وتلك القدرة على السياقات البارعة لبعض القصائد، تدل على تجربة يحسن الإصغاء إليها.

(الحياة)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى