«مأساة السيد مطر» لمجد كيال: الفلسطيني في حدود اللا ممكن وموت الاحتمالات

رامي ابو شهاب

تكتسب الرواية الفلسطينية حيويتها أو تجددها من تعدد الحيوات التي يعيشها الفلسطيني، الذي يختبر حدوده الإنسانية في مكان قلق، وأزمنة لا تستقيم، ما يدفع إلى الواجهة أسئلة وجودية تقترب من منطق العبثية والحيرة، فضـــــــلا عن شيء من الخطابات التي تقترب من العصابية في بعض الأحيان، نتيجة المنظومة الحياتية القلقة، أو القائمة دوما في عالم مضطرب هش ومؤقــــــت، إذ باتت صيغة تظلل لغة الرواية الفلسطينية التي غالباً ما تعلق في مروية تبدو في بعض الأحيان متوقعة، ولهذا تبدو بعض الأعمال صيغاً أو نسخاً متعددة لذاكرة واحدة، غير أن منطقية تعاقب الأجيال، وثبات تجربة النفي، والاحتلال تبدو دوافع للبحث عن صيغ أخرى للتأمل في هشاشة الوجود، وهكذا تتجاوز بعض الروايات الفلسطينية ذاتها الماضوية، على الرغم من هيمنة النسق الشائع، أو ذلك النمط من الكتابة الذي يبقى أسير التكوين السردي القائم على سرد الحكاية، واسترجاع المروية بوصفها نمطاً تراجيدياً عالقاً في شِباك التمحور حول خطابات التهجير والنكبة والذكرى والماضي، مما يقلل انبثاق الوعي باللحظة الحاضرة، أو بالمنظور لما يمكن أن يطلع به السرد في صوغ وعي بالحياة لا الموت، أو كليهما.
لا ريب أن رواية «مأساة السيد مطر» لمجد كيال تبتعد عن نبرات الماضوية لتقيم رؤيتها على إحساس حاضر، وشديد الاختلاط، وربما شديد المأساوية لتنتج نصاً إشكالياً، كما الأشخاص الذين تحاول أن تعبر عن عوالمهم، وهكذا تتطابق صيغتا الواقع والسرد، فتطفو الشخصيات والأحداث لتتداخل في عالم ضبابي.
رواية ابن مدينة حيفا الصادرة عام 2017 عن دار أزمنة في عمان، والحائزة جائزة عبد المحسن قطان تسعى لأن تكتنه وعي الفلسطيني المتخم بتداعيات التجربة، وأثرها على الذات التي تسعى لأن تمسّ قطاعات الأثر لا التجسيد، ولكن عبر تفصيل تاريخي وعميق عانى منه الفلسطيني. النص الذي أرفقته لجنة الجائزة توضح فيه حيثيات فوز الرواية، يحيل عوامل تميزها إلى اللغة والأسلوب، ومدى ما تتمتع به من ابتكارية تنهض على التبئير المتنوع في السرد، ما يعني أن العمل امتلك خصائص تميزه على الصعيد الفني، ولكنها لم تشر إلى مقاصده الدلالية سوى الخلفيات التاريخية التي حفل بها العمل. ولعل الرواية في تكوينها العام تبدو رهينة نموذج سردي غير تقليدي، فالكاتب لجأ إلى تكون عالمه السردي في بنية لا يمكن أن نصفها إلا بأنها غير نمطية، ولكن لا يمكن أن نجعلها تجريبية خالصة، كونها لا تعنى بتأمل ذاتها في البناء الفوقي لمقولات الخطاب، مع أنها تبدو أسيرة نهج سردي يتوسل محاولة لتقويض أركان الحدث، ضمن توجهات ومنظورات – في بنيتها العامة – تقترب من لوحة تتداخل ألوانها اللغوية، بحيث لا يمكن أن تدرك النسق الوثوقي لعالمها المعني بحيوات الفلسطيني على أرضه.
الرواية تتبنى بنية تفكيكية ذات اتصال مباشر بنصوص تُستدعى، لا من خلال التقنية الساذجة التي يلجأ بعض الكتاب إلى تضمينها كي يسارع بعض النقاد إلى نعتها بالتناص، فالرواية للوهلة الأولى مأخوذة في إدراج نصوص ومقاطع ومقتطفات وشخصيات وعوالم نصوص أخرى، ومنها رواية «الطنطوزية» لرضوى عاشور، والمأساة الإسبانية، وقصائد تي أس إليوت، وإدجار ألن بو، وغيرها الكثير، ويأتي هذا ضمن تداخلات أخرى تحيل إلى الجغرافيا والحدث والتاريخي والشخوص، وغيرها، وكلها تتعالق في عالم واحد يبدو متشككا لا يستقر على وضوح الرؤية في تكوين قيمة دلالية شديدة التفعيل للقارئ، ما يستدعي أفعالا من التشييد الذهني من قبل المتلقي الواعي والمثقف لاستخراج القيم الدلالية للعمل. لا شك في أن مجد كيال كان يسعى إلى بناء نسق متعال، لا يخضع للمتلقي بمقدار ما يرغب في أن يُخضع المتلقي للنسق، بل أن يعيد شحذ همته، وثقافته من أجل تلقي هذا العمل، غير أن ثمة مواقف سردية تبدو في بعض الأحيان لا منجزة من حيث الصقل، وأقرب إلى مسعى للمحافظة على النسقية السردية لا بوصفها معماراً، أو هيكلاً إنما بوصفها تستند إلى نسقية دلالية، ما يدخل العمل في حيز المجانية في بعض الأحيان.
تمتلك رواية كيال خاصية البحث عن الدال الحكائي بحيث تتملك المتلقي الذي يواجه بتحدي تكوين العالم الدلالي من خلال تتبع الوحدات السردية، التي تتنازعها بؤر سردية، ومشاهد يجمعها ظل عام لا مباشر التعيين، ويتعلق هذا بالفلسطيني، أو ذاك الذي اختبر عالما لا يدرك حدوده، إذ يمضي بالفلسطيني إلى تيه وفوضى وعدمية، بالإضافة إلى اضطراب نفسي عميق، لكن هذا الضغط باستجلاب فلسطينية النص يتراجع إلى أقصى حدوده، فتكتسب الرواية قوة دافعة للبحث عن تميزها وفرادتها، وهذا يتحقق عبر خلق المناخ السردي لتجربة الفلسطيني، ولكن ضمن طقوسية الكتابة وظلالها، لا عبر تبني مقولات سردية تسعى لأن تخلق دلالات نكتسبها من وحدات السرد، لا باعتبارها حكاية فحسب، وبهذا فإن رواية كيال تعدّ نموذجا مائزاً من ناحية البحث عن اجتراح قيمة نصية تحتشد بالدلالات المضمرة، بالتضافر مع تعليق مساعي بعض الكتاب، ومن ذلك إيهام القارئ بسرديتها العضوية والموضوعية، بل على العكس من ذلك فإن مجد كيال يسعى إلى تخريب البنية السردية من خلال سرديات (حبكات) موازية أو كامنة في داخل النص، وبهذا فهو من الكتاب الواعي للنص المتعالي على عالم الأجناسي البائد.
تقترب رواية كيال من لمحات سردية لجيمس جويس، وبوجه خاص من حيث التعامل مع شخوصه وأبطاله، ولكن في واقع كيال إحساس باللجوء إلى فهم شخصية السيد مطر، مركز العمل وهامشه، وهنا تكمن قيمة الرواية في خلق متناقضين في بنية واحدة، أو عبر شخصية واحدة، ونعني السيد مطر أو ربما الفلسطيني الذي لم تكتمل ولادته، أو الذي لم يولد، ولكنه حاضر، وهي إحالة للفلسطيني في الداخل والشتات، فنسق التطور الطبيعي معطوب من لحظة النشأة والتكوين الذي تجسد في البحر، وهذا يبدأ من أمه رقية ووالده أمين، هنا نستدعي أجواء رواية «الطنطوزية» لرضوى عاشور، وتحديداً شخصية رقية، وهي تلعب على شاطئ البحر في مستهل الرواية، ولكن السيد مطر في نص كيال ينطلق من البحر، ويذهب به بعيدا، ورقية تسعى إليه لاستعادته، هي المرأة التي تتزوج رجلاً، وتعشق آخر، مدلول نفسي، يستدعي الانتقام لذلك يرغب السيد مطر في قتلها، وهو قتل مجازي حافل بالدلالات الرمزية.
ثمة نماذج من اللغة ذات الطابع الغامض، ونسق يقترب من هلوسات والهذيان، وهي صيغة تتشاركها معظم كتابات آداب الصدمة، فعلاقة السيد مطر مع أمه ليست سوى نتاج عالم معقد يبنى على توصيفات نفسية تتصل بقيم الانفصال والاتصال، كما حددتها دراسات علم النفس، ونماذجها أوديب، وغير ذلك من الأعمال التي تبنى على مفصلية الانتقام، والخطيئة عبر ثالوثها (الأب والأم والابن)، وبينهما ثمة عمل شديد الترميز للسيد مطر بوصفه الفلسطيني القائم والمتواجد في وطنه المحتل الذي أصبح « إسرائيل» أي ثمة انقطاع، ورغبة بهدم مأساته، ثمة نسق من الخيانة والانتقام في مجمل وحدات العمل مما يستحضر نص المأساة الإسبانية لتوماس كيدن. هذا النمط من الكتابات القائم على الانتقام والعلاقات المحرمة والخيانة، ما يقع في صلب هذا العمل الذي ينتمي إلى بيئة تمتح من عوالم الرغبة والدهشة والسوداوية منظورها، فرؤية متبصرة في مجمل العامل ستحيل السيد مطر إلى قيمة إشارة تعني الفلسطيني بتكوينه الجمعي والكلي، في حين تندرج المرأة في عوالم الانفصال والخيانة والمرجعيات الهادمة، فرقية تزوجت من رجل لا تحبه، ومارست نسقها في خلق انفصال رمزي عن الطفل الذي أجهض، ولكنه مع ذلك قد وجد. حالة الرفض والتخلي، وذلك البناء الرمزي للعلاقة النسقية الموتورة مع الأم يشي بتفسخ المنظور الداخلي للفلسطيني، وهو يتجلى في عالم السيد مطر الذي يشهد على بنية جغرافية تتحول هي الأخرى من شكلها إلى شكل آخر، تتحول الدلالات والأعلام لجغرافية فلسطينية، ونعني المدن الفلسطينية في الداخل لتمسي يهودية. هذا الفزع والرعب يجعل من الانتقام مسعى رمزيا للتخلص من هذا الكابوس، أو ذلك السبات الذي عاني منه السيد مطر زوج ديمة بوصفه إحالة سلبية، وهنا نشير إلى التزاوج الدلالي بين اسم ديمة والمطر، ديمة التي تخون السيد مطر تعمل باعتبارها نسقاً مستمراً من أفعال الانفصال بين مطر والعالم الأمومي، أو الانثوي بالتحديد، ولعل هذا النسق من الخيانة يستمر في علاقة ديمة مع علاء الدين – شقيق السيد مطر- مما ينقلنا إلى عوالم المحرم، بالإضافة إلى أنه يظلل جزئية أمنون « اليهودي الشرقي» أو ينسحب على ذلك الحارس الذي خدم في الجيش الإسرائيلي، وعمل سجانا في سجن مارس فيه فائضا من عقده النفسية عبر التعذيب، غير أنه يقيم صداقة مع يحيى الفلسطيني الذي صادقه في علاقة لا تبدو قابلة للاكتمال، ومن ثم يعمل آمنون حارسا في مدرسة السيد مطر ، آمنون الذي يشهد خيانة ألينور (حبيبته) التي تقيم علاقة مع صديقه، وقائده إدوارد ـ اليهودي الشهم وصديق آمنون ـ الذي يرد على هذه الخيانة بأن يقوم بجريمة قتل شبيهة بتلك الجريمة التي قام بها السيد مطر، ثمة عوالم تتطابق وتتصل وتنفصل في آن، كما ثمة خداع يطال الكل هنا، وهذا ينسحب ليطال القيمة الإشارية الواضحة، ولكنها تبدو مقنعة ببنية سردية تتبنى تيار اللاوعي التي تتجلى عبر الكتابة بلا ضوابط، فهي أشبه بنماذج وليم فوكنر حيث تسقط علامات الترقيم. لا شك في أن ثمة صيغة تشككية في السرد، تشي بنموذج تقويضي، ومنها الأحداث التي تجري في المدرسة مع أنه كان في يوم عطلة، وثمة شخصيات تتقاطع في علاقاتها، بحيث يشعر القارئ بأن ثمة تكراراً سرديا، ولكن الشخصيات تتناوب بحيث تتحول « إلينور» إلى ديمة أو العكس، في حين أن السيد مطر ربما يقابل آمنون، وداود يقابل الأستاذ الجامعي الذي يخون السيد مطر مع ديمة. ثمة إشارات لهذا الواقع بلغة متفردة بسخريتها، وعلاقاتها غير المنطقية، من ذلك اختراع مشروب التكيلا، نتيجة ممارسة استعمارية تتصل بالسكان الأصليين، وعدم توافق هذه الشعوب، ولا سيما عرب الداخل مع النهج الديمقراطي، ومنه أيضاً ما يتصل بالسبت الذي يعد يوم عطلة، ومع ذلك فقد ارتكب اليهود مجزرة الطنطورية في هذا اليوم، وغير ذلك من الإحداثيات السردية. هذه علاقات تبقى مستندة إلى تأويلية لا تدعي واقعيتها، أي أن الاستناد الحدثي لدور الشخصية، يتصل بتعميم دلالي واضح، فالكاتب يختصر على سبيل المثال تكوين المرأة في نموذج وظيفي واضح أو سلبي. إن تكوين العلاقة والمستوى السردي من العوالم الغامضة والمتداخلة تشي بحالة شبيهة نجدها في كتابات جورج باتاي من حيث تعالي خطابات الجنس، واللغة البذيئة، والصادمة، وكما يبدو فإن الكاتب يسعى إلى خرق اللباقة السردية كي تتحول روايته إلى نص فقط، كما وصف رولان بارت كتابات جورج باتاي. إن هذا النوع من الكتابة يستهدف خلق تجسيد عضوي وشعوري لحالات لا يمكن أن تفسر كونها تنهض على عالم سردي شديد الخصوصية، بحيث تمتزج كل المكونات بغية توليد حالة ضبابية تستشعر، ولكنها لا تؤول بالمطلق، أي العناية بالدلالة تبدو ملتبسة، هناك الرغبة بسرد يشي بظلال ما، ومع ذلك تبقى الرواية معلقة في حدود الواقع الفلسطيني الذي يعالج في هذا العمل ضمن صيغة مفارقة لما هو سائد، وهنا لا بد من إدراج عبارة وردت بين تضاعيف الرواية، أعتقد بأنها تشي بمقولة مركزية في بنية العمل حيث جاء «موت الاحتمالات يعني موت الحياة»، وهذا مما يتطابق مع واقع الفلسطيني أينما كان. ولعل رواية مجد كيال مما يثير شهية القارئ للبحث عن هذه النماذج السردية التي تبدو مجتهدة بغية البحث عن كتابة مفارقة للسائد.

(القدس العربي)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى