قصص «حكايا باريس» لعبد القادر بن الحاج نصر: من كتابة الذّاكرة إلى الرّاهن السّياسي

رياض خليف

يحمل عنوان المجموعة طابعا سير ذاتيا،إشارة إلى القسم الأخير منها الذي كتب فيه بن الحاج نصر جانبا من مذكراته الشخصيّة، كتابة مرجعيّة دقيقة تناول فيها يوميّات رحلته الدّراسية إلى باريس قصد الدراسة الجامعية، مبرزا معاناته الطويلة في تلك التّجربة. لكن بقيّة القصص تخرج عن هذا الإطار وعن كتابة الذّاكرة والتّذويت، نحو التخييل وكتابة الرّاهن فتغوص في الواقع المحلي وتنغرس في التّربة الواقعيّة مجدّدة صلة عبد القادر بن الحاج نصر بالواقعية الأدبية، مثلما إلفنا ذلك في أغلب أعماله. وإذا كان الطابع الاجتماعي يغلب على هذه المجموعة، فإن جانبا من قصصها يخيّم عليه الرّاهن السياسي التونسي بعد الثورة، وهو ما سنقصر عليه اهتمام هذا النص النقدي، محاولين البحث في دلالات بعض القصص التي يحضر بين سطورها الهاجس السّياسي.. فالقصص ترسم جانبا من صوت الشارع التونسي وملاحظاته في خضم الأحداث السياسية، ولعلها تفصح عن رؤية الكاتب للوضع المحلي وتؤكد حضور الأيديولوجي في هذه التجربة السّرديّة.

الدولة العميقة:

تحمل هذه القصة عنوان الدولة العميقة، وهو عنوان يرحل بالقارئ نحو جدل الساحة السياسية التونسية بعد الثورة وينحدر من قناعة بأن الدولة المستبدّة ليست هؤلاء الحكام الذين تم عزلهم فقط وإنما تبدو أبعد وأعمق تتجلّى في ممارسات خفيّة وعوالم سرية خفية البعيدة ومنفلتة عن السلطة مثل، الرشوة والاتجار في الممنوعات والمساومة بالجسد. وقد عرفتها إحدى شخصيات القصّة : «الدّولة العميقة هي كتلة ضخمة من رجال ونساء، هي إفرازات اللؤم الذي عرفه أهل السياسة يطلعون علينا في النهار متحدثين عن القيم والفضائل والأصل والجذور، وفي الليل يسافرون عبر الوسائط الحديثة إلى بنما يمرحون».
تكشف هذه القصة عن جانب من ممارسات هؤلاء طارحة دوامة البحث عن شغل التي يعاني منها حملة الشهادات العلميّة فيوسف «صاحب شهادة عليا وهو أكثر ثقافة من مالكي المقاهي والمطاعم والمتاجر الذين يعرفهم». و»نادر مثقل بالهموم بعد أن ضربته البطالة بعصا الذل، إذ انتقل على مدى سنتين من جامعة حرة إلى أخرى، ومن كلية حكومية إلى أخرى حتى شاح ريقه ولم يظفر بمقعد وقتي للتدريس. كان كلما قدم طلبا كتابيا إلى إحدى المدارس العليا أو الكليات، جاءه السؤال يغوص في كبده كذؤابة السكين «اشكون بعثك». وتكشف هذه المقاطع عن تعرض هؤلاء إلى مظلمة وانغلاق الأبواب أمامهم، بسبب الوساطات والمحسوبية وهو ما يكشفه الكاتب من حالة نادر، وهو ما جعل هذه الفئة تشعر بالإحباط والخيبة وتتخلى عن أحلامها: «نحن أصحاب الشهادات المدقدقين المضروبين على الركايب في عوض نقدم مطلب في التشغيل لإدارات الدولة نقدم المطالب لأصحاب القهاوي».
معاناة هؤلاء واضطرارهم لحياة الهامش مقابل انغماس البعض في لعبة الدولة العميقة، والبحث عن طرق غير مشروعة للكسب والفساد هي المقابلة التي أقيمت عليها هذه القصة، ففي مقابل هؤلاء المعدمين تظهر الحسناوات وهن يبعن أجسادهن وينعمن بطالبي اللذّة من ذلك شخصيّة زكيّة. ولعلّ هذه القصّة ترسم خيبة اجتماعيّة من المشهد السّياسيّ الذي لم يجد حلولا للمشاكل الاجتماعيّة التي أججت الثّورة وعجز عن إيقاف نزيف البطالة وعن صدّ الفساد العميق.

المتحزب

تدور القصة حول رجل متحزب لا يلتحق باجتماع حزبه السياسي ويختلق الأعذار الواهية لغيابه، وهي تكشف عن نوع من عدم جدية الشخصيات السياسية وغياب مصداقيتها، فهذا المتحزب يتعمد الغياب ويعتذر مختلقا سببا وهميّا، «سوف يتأخر لا شك عن الاجتماع سيدعي أن الزحام في الطريق كان أكبر مما يتوقع، وأن هذا الزحام أصبح ظاهرة مجتمع ما بعد الثورة». ويعبّر عن حرقته للغياب «مهما كان ويكون سيعتذر بحرارة المتحزب الذي يقدم مصلحة الحزب على زوجه وولده فلذة كبده». فالكاتب يفضح في هذا المستوى شخصية السياسي ويبرز ما فيها من تناقض بين الحقيقة والقول. وهو يكشف من خلال حديث هذه الشخصية مع نفسها ضوضاء المشهد السياسي وفراغه: «بعد ساعتين سيعقد اجتماع الهيئة في فضاء بقاع المدينة وسيبسط كل واحد رأيه، ستعلو الأصوات وتنهض، ستعمّ الجعجعة، جعجعة عقول أفرغ من فؤاد أم موسى… كل الرؤوس فارغة بدون استثناء حتى رأس الرئيس ورأس الكاتب العام». وتبدو الحياة السياسية نوعا من الفوضى تسودها المؤامرات والصراع على المناصب، وهو صراع لا تخلو منه الأحزاب نفسها فهي بدورها تشهد قلاقل داخليّة: «مؤامرات كثيرة بدأت تطل برؤوسها ستعصف ببعض الأعضاء، حرب قذرة ملتهبة تحت الرماد».

براد الشاي:

أما قصة براد الشاي فتطرح المشهد السياسي من زاوية المواطن البسيط البعيد عن المنافسة وعن القيادة فتكشف نهاية زمن الانتماء عن قناعة أيديولوجية وغلبة المصالح الذّاتيّة عن العمل السياسي وهو ما عبر عنه أحدهم: «كان تحب مع النداء نايا معاه، كان تحب مع النهضة نايا معاها، كان تحب مع الدساترة نايا معاهم، نايا عياش، نلقّط في الخبزة الي يسبّقلي حاجة نحطو فوق راسي وأنت اش يهمك؟». (نايا/تعني أنا في اللهجة المحلية التونسية وخصوصا في جهات الوسط والملاحظ غلبة اللهجة المحلية على هذا المقطع محاولة من الكاتب للاقتراب من عالم الشارع التونسي ومشاغله)…فهذه القصة تكشف زيف الانتماء السياسي وخضوعه لمصالح ذاتيّة.
نخلص في ختام هذه الوقفة مع هذه الأقاصيص، إلى أن بن الحاج نصر يكتب سمات مشهد سياسي يفقد مصداقيته وتختلط فيه لعبة السياسة بالمال وتتغلب المصالح الذاتية على القناعات الفكريّة وعلى المصلحة الوطنيّة. ولعله بذلك يعبر عن حالة قلق من المشهد السياسي الراهن الذي تلوح فيه علامات الخيبة.

(القدس العربي)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى