زمن بلا أساطير

خيري منصور

هناك أزمنة ابتكر فيها الإنسان الأسطورة كالزمن الإغريقي، الذي يصعب فيه فك الاشتباك بين الميثولوجي والواقعي. ومقابل ذلك الزمن، هناك أزمنة عادت إلى الأسطورة باعتبارها الاحتياطي الذي يستدعى ليسد فراغا عميقا في الواقع، ومثال هذا الزمن القرن العشرون، الذي شهد إعادة إنتاج الأساطير أو الإحالة إليها، ففي قصيدة واحدة لأليوت هي «الأرض اليباب» ثمة عشرات الهوامش التي تحيل إلى الميثولوجيا، ومن أبرزها وربما أهمها أسطورة سيبيل، التي طلبت من الآلهة الاأدية، لكنها لم تطلب ديمومة الصبا، وحين بلغت الشيخوخة أصبحت تتمنى الموت.
وشعرنا العربي الحديث، في الموجة التي أطلق عليها شعر التفعيلة كبديل للعمود، كان استخدام الأسطورة قاسما مشتركا بين الشعراء الرواد، بدءا من بدر شاكر السياب الذي تأثر بكتاب «الغصن الذهبي» لجيمس فريزر، وحاول تحديث وعصرنة بعض الأساطير سواء الإغريقية منها أو أساطير حضارة الرافدين، والسمة التي طغت في تلك المرحلة على توظيف الأسطورة في الشعر هي القيامة والانبعاث، التي تجسدت في الفتى أدونيس الذي استمدت الأرض خصبها وربيعها مما نزف من دمه.
وبالطبع تفاوت استخدام وتوظيف الأساطير بين شاعر عربي وآخر، تبعا للموقف الأيديولوجي ومرجعيات الثقافة، فالشاعر خليل حاوي بهاجسه القومي اختار من الأساطير ما يكرس أطروحته القومية. أما عبد الصبور فقد اختار ما يتناغم مع هواجسه الميتافيزيقية حول سؤال الوجود والعدم. وذهب الشاعر علي أحمد سعيد إلى ما هو أبعد حين أطلق على نفسه اسم ادونيس، متجاوزا التقمص إلى الحلول، وإن كان السياب الأكثر تنوعا وبانورامية في استخدامه للميثولوجيا، لأن معاناته الجسدية أعطت سيزيف بعدا تاريخيا وواقعيا، وكذلك أشواقه للانعتاق من واقع بالغ القسوة، وجسد خذله في مُقتبل العمر.
ولأن تلك الموجة الشعرية تزامنت مع هزيمة العرب في حرب عام 1948، التي انتهت باحتلال فلسطين، فقد جذبت أسطورة بنيلوب كثيرا من الشعراء الفلسطينيين، لأنها ذات صلة بالضياع وانتظار العودة، وما فات معظم هؤلاء الشعراء في هذه الأسطورة هو ما تنبه إليه الشاعر اليوناني حفيد الأسطورة الإغريقية يانيس ريتسوس، فقد قلب الأسطورة، وأعاد إبداعها بوعي فائق للزمن، وانتهى في قصيدته التي استلهمت بنيلوب إلى أن المرأة التي تنتظرعوليس الذي غيّبته البحار، أنكرته بعد عودته، لأنه لم يعد الرجل العاشق الذي تعلقت به، وأكثر من ذلك سخرت من شيخوخته وندمت على ما أضاعت من العشاق، وهي تنسج الطيور على مناديلها المبللة بالدمع، وتنتهي قصيدة ريتسوس بفرار تلك الطيور من خيوط الحرير إلى أشعة الشمس.
وما يلفت الانتباه، هو انحسار هذه الظاهرة في شعرنا العربي خلال العقود الأربعة أو الخمسة الأخيرة، ونادرا ما نجد نصّا يستلهم أسطورة أو يحيل إليها، فهل حدث ذلك لأن الزمن الذي نموته أكثر مما نعيشه بلا أساطير وبلا أشواق للتحليق عاليا، والأرجح أنه زمن زواحفي يلتصق الإنسان فيه بالتراب، بعد أن فقد جناحيه وأصبح بيته هو قبره، كما هو الحال بالنسبة للسلحفاة.
والأسطورة ليست كما يتصور البعض مرادفا للخرافة، أو مضادة للتاريخ إنها من صلب التاريخ، لكن على صعيد الممكن والقابل للتحقق، لهذا قال أرنست فيشر إن الخيال قد يكون واقعا بالغ التركيز، وقد عرّفها سيجموند فرويد وفقا لمنهجه ومعجمه النفسي بأنها، ترجمة مصعّدة للرغبة. وعرّفها يونغ بانها تعبير عن صراعات اللاوعي البشري، وحين نعيد قراءة أساطير مثل سيزيف وبروميثيوس وأيكاروس، نجد أنها تعبير عن عقاب أبدي لحق بالإنسان عندما بلغ رشده الآدمي وتمرد، وقد تكون اسطورة بروميثيوس هي الأوضح والأدق في التعبير عن هذا العصيان، فكل ما تعرض له من عقاب وهو نهش النسور لكبده العاري، كان بسبب اكتشافه لسرّ النار، والنار في سياق كهذا هي النور ذاته بكل ما يقبل من تأويلات.
وهناك أسباب تاريخية وموضوعية لانجذاب الشعراء العرب من جيل الرواد للأسطورة، منها أن تلك الموجة من الحداثة في نهاية الأربعينيات من القرن الماضي تزامنت كما قلنا من قبل مع حراكات وطنية وسياسية، منها ما يتعلق بالاستقلال، ومنها ما يعبر عن احتجاج أصيل على نظم مُستبدة، لهذا كان استخدام الأساطير ذات الصلة بالانبعاث والقيامة بمثابة استدعاء للاحتياطي القومي والإنساني. هناك إذن أزمنة تبتكر الأساطير مقابل أزمنة أخرى تعيد إنتاجها، لكن الزمن الرمادي الذي تضاءل فيه الآدمي وتشيّأ وحولته ثقافة الاستهلاك إلى إسفنجة لا حاجة به إلى الأساطير، أو حتى إلى الخيال ، لأن واقعيته الزواحفية قدمت الضرورة على الحرية، والرغيف على الوردة وأخيرا أصبح يعيش ليأكل فقط، والتاريخ قابل في بعض مراحله لأن يؤسطر، بحيث تجسد فيه الاستثناءات رموزا تصلح لكل أوان. لكن هناك فترات يصبح فيها الإنسان كالمنبت الذي لا تاريخا أبقى ولا أسطورة قطع، بحيث تصبح حدود قامته وملكوته بين قبعته أو كوفيته وحذائه.

(القدس العربي)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى