الجزائري كامل داود يحتفي بسلطة الكتابة تخييلياً

انطوان جوكي

هل يمكن إنقاذ العالم بالكتابة؟ سؤالٌ قد يبدو بسيطاً وساذجاً في ظاهره، لكنه من التعقيد بحيث يقسم البشرية منذ بدء التاريخ. ولا شكّ في أن هذا ما دفع الكاتب الجزائري كامل داود إلى اختياره محرّكاً سردياً رئيسياً لروايته، «زبور أو المزامير»، التي صدرت حديثاً عن دار «أكت سود» الباريسية، بالتزامن مع صدورها عن دار «البرزخ» الجزائرية.
«بهذا الكتاب، أردتُ القيام بفعلٍ أدبي»، يوضح صاحب «مورسو، تحقيق مضاد» لقارئه، مبرّراً هذا الفعل بقوله: «حين نكون مضطهدين، مجرّدين من كل شيء، كما في «غولاغ»، أو سجن، أو بلد مغلَق، نكتب». إنها مسألة حيوية، محرِّرة. عبر قصة زبور، أروي في الواقع تجربتي الحميمة مع الأدب». وفعلاً، وإن لا تحضر كلمة «جزائر» إطلاقاً في هذه السردية التي تقع خارج الزمن، لكننا نستشفّ بسرعة فيها جانب السيرة الذاتية الخرافية، وفي الوقت ذاته، مسعى مسارياً مثيراً.
بطل الرواية زبور (اسمه الحقيقي إسماعيل) وُلد في قرية على مشارف الصحراء وترعرع في كنف عمّته العانس والأمّية هاجر وجدّه الخرف والأبكم. في طفولته، اختبر تواري أمّه فجأةً، وإبعاد أبيه إياه من المنزل، بإيعاز من زوجته الجديدة، وسخرية أبناء القرية الثابتة منه. لكن في سن المراهقة يكتشف داخله يوماً قدرة إبعاد شبح الموت وإطالة عمر الناس حوله عبر كتابة قصّة كلٍّ منهم: «حياة الجميع، أطفالاً وعجائز، كانت مرتبطة بسرعة كتابتي، بصرير تخطيطي على الورق، وبتلك الدقّة الحيوية التي كان عليّ صقلها عبر إيجادي الكلمة الصائبة التي تنقذ من الهوة أو المرادف القادر على تأجيل نهاية العالم». ولذلك، نراه على طول الرواية منكبّاً على الكتابة بلا انقطاع، مالئاً بنثره الفيّاض مئات الدفاتر ومنقذاً بذلك أبناء القرية من براثن الموت: «الكتابة هي الحيلة الوحيدة الناجعة ضد الموت. جرّب الناس الصلاة والأدوية والسحر وإنشاد الآيات والجمود، لكني أعتقد بأنني الوحيد الذي وجد الحل: أن نكتب».
وفي أحد المساءات، وبينما كان زبور مستسلماً لنشاطه الوحيد، يدقّ بابه شقيقه الذي يمقته ليبلغه بأن والدهما يصارع الموت في سريره، طالباً منه الحضور فوراً من أجل إنقاذه. لكن حين يلبّي الدعوة ويجلس قرب والده، يجد نفسه عاجزاً عن إيجاد الكلمات الصائبة للكتابة، فيختبر للمرة الأولى الحيرة ويتساءل إن كان عليه ممارسة موهبته وإنقاذ حياة ذلك الذي لطالما شكّك بهذه الموهبة وسخر منه أمام الآخرين، بعدما تخلى عنه وهو طفل صغير. وبين امتعاض ورغبة في إثبات قدرته السحرية، يبدأ زبور بالكتابة سارداً في طريقه قصته وقصة والده من أجل التغلّب على الموت مرةً أخرى. هكذا نعرف كيف يكتشف زبور يوماً اللغة الفرنسية وأراضيها بفضل كتبٍ منسية عثر عليها في إحدى غُرف المنزل الذي يقطنه مع عمّته، فينطلق في قراءتها داخل عزلته، مثل غريقٍ رماه البحر على جزيرة مليئة بالكنوز أو لفظه حوتٌ بعد ابتلاعه، مستعيناً بالقليل الذي تعلّمه من لغة المستعمِر في المدرسة التي غادرها باكراً. وبعد جهدٍ جهيد، يتمكّن وحده من فكّ رموز هذه اللغة وكلماتها، مثل شامبوليون أمام «حجر رشيد»، فيلتهم هذه الكتب مراراً، ثم ينقضّ على كل ما كان يقع عليه من مؤلفات فرنسية متوافرة في القرية، مهما كانت طبيعتها. قراءات لن تلبث أن تشكّل فرصة له كي يكتشف ذاته ويصبح قاصّاً وكاتباً بدوره.
أكثر من «مورسو، تحقيق مضاد»، «زبور» هي رواية مشبعة بالدلالات والتلميحات والرموز، وأيضاً بالمراجع والاقتباسات الأدبية. عناصر تثري قصتها التي تشبه إلى حدٍّ بعيد قصة داود. فمثل زبور، نشأ الكاتب في قرية صغيرة، وتربّى في كنف جدّيه داخل مجتمع تتحكّم بسلوكه لغة عربية منفّرة بطابعها الرسمي وجانبها المفخَّخ بالمحرّمات والخطاب الأيديولوجي الواحد الذي تسيّره. ومثل زبور أيضاً، اختبر الكاتب العزلة في تلك الفترة، ثم لدى صدور كتابه «استقلالاتي» (2017) الذي يتضمّن 182 مقالة حرّة نشرها في «صحيفة وهران»، من بينها واحدة تناول فيها بؤس الحياة الجنسية في عالمنا العربي وأدّت إلى حملة إعلامية عنيفة وجائرة ضدّه. وفي حال أضفنا أن «زبور» (اسم البطل) هو الاسم الآخر لمزامير داود (اسم الكاتب)، لتبيّن لنا مدى التلاصق بين الشخصيتين.
معقَّدة، وأحياناً صعبة القراءة، تفتننا هذه الرواية أولاً بأسلوب كتابتها الشفهي لكن المشغول بعناية فائقة، وبالتالي بإشراقات لغتها الشعرية التي تجعلنا نرغب في تسطير وحفظ عددٍ لا يحصى من جُمَلها. تفتننا أيضاً بموضوعها الرئيس: الأدب، وبكشفها سيرورة انبثاقه ووظيفته وضرورته القصوى، من دون أن ننسى البُعد المجازي الساحر لقصّتها الذي يحوّلها إلى فضاء احتفاءٍ بسلطة الكلمات ويجعل رهان زبور على الكتابة والأدب قابلاً للمقارنة برهان شهرزاد التي تقامر بحياتها كل ليلة وتنقذها عبر سردها قصصاً.
لكن حين يسائل داود سلطة الكتابة، تأخذ مساءلته بالضرورة بُعداً سياسياً. وفي هذا السياق، تشكّل روايته خطاباً نقدياً ضارياً ضد الجهل والتزمّت في عالمنا العربي، ودفاعاً مؤثّراً ومحكماً عن حرّية النساء العربيات اللواتي تفرض مجتمعاتنا الذكورية عليهن العيش مخفيات حبيسات. وليست صُدفة أن تكون جميلة، المرأة التي يحبّها زبور، مطلَّقة تعيش كظلٍّ خلف نافذتها، وأن يكون سبب تواري أمّه باكراً طرد والده إياها من المنزل بعد تطليقها، وسبب عزلة عمّته وبقائها عزباء عدم مجيء الرجل الذي كانت موعودة بالزواح منه لطلب يدها.
وفي السياق ذاته، يمكننا أيضاً قراءة نصّه كنشيد حارق لرغبات الجسد التي تُخلِّف الإحباط والعنف حين يتم منعها وكبتها، والتحرّر والنشوة حين تُعاش من دون إكراهات. ولا عجب بالتالي في التلميحات المتواترة داخل الرواية إلى جزيرة روبنسون كروزو، في معرض وصف زبور الحياة في قريته، ففي المكانين نستنتج الانغلاق ذاته وخَدَر البلاهة واجترار الكلام الناتج منه. وتأخذ هذه المقابلة كل معناها حين نحزر أن القرية المذكورة هي استعارة للجزائر اليوم. فعلى لسان زبور، نقرأ: «عندنا، تلتبس القراءة مع معنى التسلّط لا مع فكّ لغز العالم. (…) لا أحد في قبيلتنا يتقن الكتابة أو القراءة. وإن تلقيّتُ هذه الهبة إذاً، فلمنح أهلي معنى وتأمين ديمومتهم وإنقاذهم من التواري الكامل والغبي».
لكن الأهم في هذه الرواية يكمن برأينا في إلحاح الكاتب داخلها على حيوية القصص وضرورتها للبشر: «إن تمكّن الموت من تعقّب أثركم، فلأنكم جلستم على قارعة طريقكم ولم تعودوا تصدّقون قصّتكم، أو أنّكم فرّقتم المصغين إليكم، أمواتاً وأحياء». يكمن أيضاً في ترويجه الجريء لإمكان «لغة أخرى» هي مزيج من اللغة العربية التي يتقنها بطله جيداً ومن لغة الكتب الفرنسية التي قرأها. لغة سحرية ابتكرها زبور بنفسه ومارسها لدرء الموت الذي يحضر في الرواية كرمز للانغلاق القاتل الذي تقود إليه النصوص واللغات حين يتم التعامل معها وكأنها غير قابلة للتغيير أو مرتبطة بانتماءات ثابتة.
روايتان لبشير المفتي في طبعة جديدة
روايتان للكاتب الجزائري بشير مفتي صدرتا في طبعة جديدة عن منشورات الاختلاف وضفاف وهما «غرفة الذكريات» و «أشباح المدينة المقتولة». بطل «غرفة الذكريات» إنسان عادي، متوتّر، راغب، ضعيف، تائه، مشكّك، متأمّل… فالكاتب يرسم ملامح شخصية تعيش في مرحلة حساسة تمتزج فيها المخاوف بالآمال، وفي وطن عائم بين الأحلام والانكسارات. يغدو الراوي الرئيس في العمل أشبه بمرآة تعكس ذاك العالم الذي يعيش فيه، تبتلعه الأسئلة حتى يجد في الكتابة منفذاً للنجاة من الغرق فيها.
هكذا، يجد عزيز مالك نفسه، وهو على مشارف الخمسين من عمره، أسير رغبة قاهرة في كتابة رواية تكون هي الأولى والأخيرة في حياته. فيقرّر أن يعود إلى الأصل، إلى الماضي متسلحاً بذكريات عن الطفولة والمراهقة ومطلع الشباب، حيث تعرّف إلى «جماعة الشعراء» التي جعلته يعيش الحبّ بمفهوم آخر، ويرى الحياة بعين أخرى. وقد تكون هذه الشخصية المقيدة بأسئلتها الفلسفية والوجودية والحياتية انعكاساً لجيل عاش تراجيديا الحرب الجزائرية، وصدمة الحرية من حلم الاستقلال إلى كابوس التشدّد العقائدي. وهذا ما يؤكده الكاتب ذاته في إهدائه الرواية «إلى ذلك الجيل الذي فقد أحلامه في دروب الجزائر المظلمة».
أما رواية «أشباح المدينة المقتولة» فتدور أحداثها في زمن صعود الإرهاب في الجزائر وشخصياتها الأربع من ضحايا أحد الانفجارات التي هزت العاصمة. وأحد هؤلاء الضحايا هو الإرهابي الذي فجر نفسه، يسترجعه الكاتب ليروي على لسانه كيف أصبح إرهابياً وفي أي ظروف وكيف فجر نفسه. أما الضحايا الآخرون فيروون أيضاً فصولاً من حياتهم.
بشير مفتي هو من الروائيين الجزائريين الشباب الذين يحتلون المشهد الراهن ومن أعماله: «أرخبيل الذئاب»، «شاهد العتمة»، «أشباح ملونة»، «دمية النار» (وصلت إلى اللائحة القصيرة لجائزة البوكر العربية 2012).

(الحياة)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى