كتبوا حياتهم به: الشعر الذي ضرب الباب على السيرة الذاتية !

عبد اللطيف الوراري

في هذا النص الذي نقترح ترجمته، يردّ فيليب لوجون على الندوة النقدية التي انعقدت في مرسيليا (جنوب فرنسا) يومي 17 و18 نوفمبر/تشرين الثاني عام 2000، تحت عنوان: «حصّة السيرة الذاتية داخل الشعر المعاصر: أيّ تجديد؟»، وعلى عرّابها دومينيك راباتي الذي استغرب منه إقصاء الشعر من التعريف الذي كان اقترحه للسيرة الذاتية في «الميثاق السيرذاتي» (1975)، مُبرّراً ذلك بقوله إنّه «في عصرنا يُلْزمنا الشعر على التفكير في الوشائج التي تجمع ذات الكتابة والذات الواقعية». لذلك، يؤكد لوجون، في لهجة صريحة دالّة، أن النثر لم يعد قَيْداً في تحديد نوع السيرة الذاتية، وأن الشعر بات يُشكّل – بطريقته الخاصة- محفلاً رئيساً داخل الفضاء السيرذاتي، بل إنّ «الشعر أخذ يضرب الباب على السيرة الذاتية» بحسب تعبيره تعبيره.

يا للبدعة

في الميثاق السيرذاتي (1975)، قلتُ ـ يا للبدعة! ـ إنّ السيرة الذاتية تكون «نَثْرًا»، إذ إنّ نحو 99٪ من الحالات جرت على ذلك، غير أنّ ذلك بالطبع لم يكن صحيحًا. ولم يعد مجديًا، بعد ذلك، أن نشرحه مطولًا داخل الجزء نفسه (في الفصل المعنون بــ»ميشال ليريس. السيرة الذاتية والشعر»)، أو أن نعود إليه لتهدئة الأمور في كتاب «أنا أيضًا» (1986). وآمل أن يكون من الأفضل للفهم أن نجمع هنا خمسة نصوص صغيرة كُتبت لملفّ كُرّس للمسألة في مجلة ( Faute à Rousseau، عدد 29، شباط/ فبراير 2002)، وهو الملف الذي أوصي بصراحة أن يُقرأ قراءة كاملة.
لقد مرّ ما ينيف عن خمسين سنة (17-18 نوفمبر 2000) قبل تاريخ لقاء «السيرة الذاتية والشعر» الذي انعقد في مارسيليا (جنوب فرنسا). كان السؤال الذي اقترح على الندوة المستديرة يدور حول: «حصة السيرة الذاتية داخل الشعر المعاصر: أي تجديد؟». وكان دومينيك راباتي ، العرّاب، باشر النقاش كما يلي: «وهو يُسْتبعد بغرابة من التعريف الذي كان اقترحه فيليب لوجون في «الميثاق السيرذاتي» (1975)، يلزمنا الشعر في عصرنا مع ذلك على التفكير في الوشائج التي تجمع ذات الكتابة والذات الواقعية». انظروا الآن، لقد أخذ الشعر يضرب الباب على السيرة الذاتية، ويبدو أنّه يشكو من كونه «مُبْعدًا»… ماذا حدث؟ هل غدت الكلمة القبيحة كلمة مرور؟ إنّا بمنأى عنه – يكاد جميع الكتاب الفرنسيين، حتى عندما يحكون حياتهم مباشرةً- يبدون بوجه عبوس إذا جاز لنا أن نُسمّي مثل ما يفعلون، لكن الأمر غدا أقلّ بكثير من ذي قبل. ينبغي أن نتجاوز هذه المناقشات. أن نبعد السيرة الذاتية أو أن نريدها أن تكون، فإنّ الأمر يمنع التفكير في ما هي عليه، والذي لا هو سيئ ولا هو جيد. الشعر لا يوجد في كل مكان، والسيرة الذاتية ليست بأكثر من ذلك. وكلٌّ منهما يمكن أن يكون وسيلةً للآخر. وليس معيبًا أن نطرح أنّهما شيئان مختلفان، وأن نحاول تعريفهما، ونُعرض عن القبول بأنّ بينهما نُقَاط تقاطع عديدة. ويمكن أن تُؤخذ السيرة الذاتية بالمعنى الواسع والغامض، أو بالمعنى الضيق والدقيق. وكذلك الشعر. وهكذا، سنتناول بشكل ودّي في موضوع ملفّنا ما نوقش في مرسيليا: «حصة الشعر في السيرة الذاتية المعاصرة: أي تجديد؟».

أكثر من مجرّد سيرة

بحوزتي، على المائدة، ستة كتب هي بمثابة محكيّات سيرذاتية، محكيّات جميلة وحقيقية متواصلة، تشرع في البدء بولادة المؤلف، وتستكشف على مراحل تكوينه، تاريخ شخصيته، مثلما تدمج هذا التاريخ في سياق مضبوط بأسماء وتواريخ، إلخ. وهي مكتوبة في أبيات شعرية. بي شوْقٌ إلى هذه الكتب الجريئة، والتي رُبّما حكم عشاق الشعر بأنّها ليست إلا نَثْرًا مُوقَّعًا، وعشاق السيرة الذاتية بأنّها ليست إلا مجرد تمارين مصطنعة. أغرم بها لأنّها تبحث طريقًا أصيلا نحو صوتها. فهي ليست كتابات منظومة مُملّة، بل تجارب في القول. إنّه من الصعب على أحدهم أن يكتب حياته، الحياة الخاصة، داخل لغة مشتركة ينحلُّ فيها. ومن المرعب والمتكلّف أن يقدم نفسه للآخرين بأي حقّ، إذا لم يكن ثمة شيء ما يعرضه أو يستند إليه. قلبي يخفق، تنفُّسي يذهب ويجيء، ينبغي أن أعثر على إيقاعي. صوتي إذ لم يكن غريبًا، صوتي الذي لا يرغب في الاستماع، ينبغي ألا يكون هذه الجلبة التي تخونني، إنّما الموسيقى التي تحملني. وكتابتي ليست رسالةً تضيع من تلقاء نفسها في الصمت ولا تنتهي إلا بعينين، بل هي الكلام الذي يرنُّ في الأذن، الذي يجعل الآخر وهو يُمَفْصل، بحنجرته الخاصة، حياتي.
إنّ هذه الكتب تجعل القراءة الصامتة في حكم المستحيلة. تتحرّك شفتاك. يجب أن تترسّم خطواتك خطى الشاعر. إذا فقدت الإيقاع، تفتقد المعنى. أمسكه مسبقًا باليد، تجِدْ أولًا هذا القيد غريبًا، والذي يبدو في بعض الأحيان هازئًا بالشعر بقدر ما يهزأ بالسيرة الذاتية، موحيًا من أصبعيه بمفارقة ساخرة. ومن ثمّة تلاحظ أن هذه الغرابة موحية. وبعض الأمور لكي تُقال تستدعي التحايل عليها، وأخرى تصير أقرب لأنّ العَرُوض يجبر على تجديد المفردات. تخشى أنّه مع البحر الإسكندري، أو أي وزنِ شعري آخر، يحدث مكان عامّ وأنت أمام لغة جديدة كلّيًا. تَنفّس الصعداء، ولا تُشدّد عليك. هل يمكن أن تُقرأ هذه القصائد الطوال تِباعًا مثل حكْيٍ نثري؟ أحيانًا نعم، إنّ في الأمر فتنةً. وأحيانًا، يُفضَّل أن نشربها بجرعاتٍ صغيرة شأنها شأن أن تستقطر النبيذ، تاركاَ النّكهات «تنمو» من تلقاء نفسها.
أقدّم لكم الكتب التي في حوزتي: روبير بارات، في قعر طفولتي (الفكر الجامعي، 1981). طفولة قضاها بـ (تلال شومون) في بداية القرن العشرين، طفلٌ لنجّارٍ تحوّلَ إلى مصمم ديكورات، وفي السينما يومًا تفرّج على رسومات إباحية مصورة بالأبيض والأسود، وسمع المكلفة بإجلاس الجمهور، في فترة الاستراحة، تعرض عليه سكّرياتها ذات القطعات الست: «آخذ واحدة منها، آخذ اثنتين !». لم يفعل لا واحدة ولا اثنتين، وأتى البيت وشرع في كتابة سيرته الذاتية على هذا الإيقاع، في مئة وأربع وعشرين صفحة. يقدم النص نفسه كنثْرٍ عادٍ، بيد أنّه غريب ومؤثّر تكتشف أنّه أسرع مما يجب قوله بصوت خافت، وعلى ترخيمات لازمة، وأنّ ذلك لا يأتي إلا من الشعر.
في المقابل، لا مشكلة لتحديد أوزان البحر الإسكندري لدى مارغريت داسي في ديوانها «مذكرات ابنة جيمور في بداية القرن العشرين داخل غابة لاند» (منشورات جاك بريمون، 1999)، وهو محكيٌّ يبلبل طفولة أليمة وحياة مناضلة أعطتها مدرسة الجمهورية وسيلة تعبيرها وكرامتها. عدا أنّه، في شكله الفيزيقي، كتاب جميل يزدان غلافه بشريطين تتوسّطهما أشجار الصنوبر، هذا الصنوبر الذي منه يتدفّق، مثل عصير الراتنج، شعر الحياة. كلام عن المدرسة كذلك، لكن بشكل أكثر حداثةً وتحرُّرًا ما تنقله أبياتٌ من الشعر الحر، أو بالأحرى أبيات شبيهة بأسلوب كلوديل، لصاحبها هوبير ليسيني في «طفل شرقي» (هارتمان، 1995) و«Les J Troyes» (منشور صوتيًّا، 1999)، وهو ابن جزّار أصبح، بفضل المدرسة العليا، مُدرّسًا يمتعنا وهو يقرأ مقتطفات من نصوصه بصوت عالٍ في الكثير من الموائد المستديرة التي تعقدها جمعية من أجل السيرة الذاتية والتراث السيرذاتي (APA).

محكيّات طفولة غير عادية

وأمّا بقية «شعراء السيرة الذاتية» الثلاثة الآخرين فسأقدّمهم لكم بإيجاز: هم مؤلفون مُجرّبون تعثرون ببساطة على كتبهم في المكتبة أو الخزانة، مثلما تُقبلون، بعد أن تقرأوا مقالة لشانتال شافيريات- دومولين ، على توطئة ووردزورث (أو لِمَ لا على «تأمُّلات» فيكتور هوغو التي هي «مذكّرات روح» تقع حقيقةً في منتصف الطريق بين ديوان غنائي وحكي سيرذاتي)، بحيث نقودكم في إثر ذلك إلى مصادر الشعر الرومانسي. لكن سأعطي عن كلّ واحد من هؤلاء الثلاثة مقتطفًا مائزًا.
في حوزتي نسخة من عمل ريمون كينو «بلوط وكلب» (رواية شعرية) (1937)، من سلسلة شعر دار غاليمار ذوات القطع الصغير، وهو محكيٌّ طفولي، ومن ثمّة محكي للعلاج بالتحليل النفسي الذي يتردد صداه منذ البدء كما في الأبيات أدناه:
ولدْتُ في هافر يوم الحادي والعشرين من فبراير
عام ألف وتسعمائة وثلاثة.
كانت أمي بائعة أقمشة وأبي بائع أقمشة:
يطآن الأرض فرحًا.
لسبب غير مفهوم أعرف الظلم
وأُودِع الصباح
عند امرأة جشعة وبلهاء، مرضعة
تلقمني حِجْرها.
عدا الحليب تعبتُ من الاعتقاد
بأنّي ظفرت منها بمأدبة
زامًّا بشفتيّ نوعًا من الإجّاص،
عضو أنثوي.
كما في حوزتي «الحياة العادية» (رواية قصيدة) لجورج بيرو (غاليمار، 1967)، التي أحببت أكثر أجزاءها الثلاثة المعنونة بـ»أوراق ملصقة»، ويمكنني أن أقرأ خاتمتها كالآتي:
أخيرًا
أتحدّث عن أشياء معيوشة
عن طريقي أنا طبعًا ورُبّما عبركم
بيد أنّكم لا تتصوّرون
واجب أن تضعوها على النافذة
حتى تيبس بمحض إرادتها
مثل كتّان مغسول جيّدًا
من كلّ قذارة
ذاتيّاتنا العفنة
التي ستضمحلّ
بإرادة الريح
لكن لا ينبغي إثارتها
فإذّاك تحدث دون أن تقول شيئًا
وتُعرّينا مُحدثةً صفيرًا
ليس أكثر من الجلد والعظام
لتقتفي أثرك مُغامرًا
آه، يا حياتنا الجميلة المقاتلة
ويا بنثيسليا وَحْشي
لن ألثم ثغرك أبدًا
لك لن أكون
سوى جسدٍ عصيٍّ على الانقياد
Vale Vale et me ama
سأُنْسى سريعًا وما
أكتبه عبر مساء خريفي جميل
بمقربة من كلبي الذي يعضُّ براغيثه
فتضيع في دمه
من السخف أن أرغب في القيام به كما
أسمع أطفالي وزوجتي
الذين يُغْفون جدار الليل
يحفظ ما أكتبه
الرُضّع الصغار من العدم
يتلمّظون شفاههم.

ثُمّ هناك شاعر معاصر هو وليام كليف الذي نشر عام 1993، عن منشورات ديفيرانس، عمله «سيرة ذاتية» (هذا هو العنوان) بغلافه الأزرق.
يحكي على نحو مُنظّم طفولته ومراهقته وشبابه، وقد قسمها إلى ثلاث متتاليات، زيادة على فاصل موسيقي، تعذيب وخاتمة. وهي كلُّها تجري في شكل سلسلة من مئة سوناتة شعرية مركبة من 10، 12 أو 14 قدمًا، ويكسر إلقاؤها غير المُطّرد الإيقاعات المتوقعة ويشقُّ الطريق لكلامٍ مُؤْلم وصادق… هكذا تُثار بداية الحبّ في السوناتة 64، بقدرما تتلامح عبر رسم صغير للتحليل النفسي والتأمل الاسترجاعي، روائح ساخرة وسوداوية، حيث الكلمات (العبرات، الفتون والأسلحة) مُقفّاة كلاسيكيًّا، لكن مع شَوْكها أَيْضًا.
حصل أن ثارت حفيظتي بلا مشيئة
السحر من لدن أحدهم
يقتفي بخطواته خطواتي وبأعمدة
معبدي يعلق إيماني لكن داخل الأمل
وأن وجدت بسببي أنا بَلْسمًا لجراحاتي
أنا؟ إذ آتي لمساعدة أيّ شخص؟ أنا الذي
لا ألوك بأسناني سوى الشوك اليابس
فهذا ما يستهوي طبيعتي الواهنة؟
يتكرم عليّ بأن يزورني في كوخي؟
يتملّقني بنظراته البعيدة الملأى بالدموع؟
(في هذا العمر يبدو لنا الزمان لا نهائيًّا
علينا أن نحيا دائمًا معتقدين أنّ أسلحتنا
يمكنها دائمًا أن تسترجع الليالي وتخترقها)
هكذا أعيش مأخوذًا بشرك فتنة جديدة.

(القدس العربي)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى