«أمواج» عبد الله إبراهيم… الذات والعراق: التكيف مع العالم في غياب المرجعيات

رامي ابو شهاب

صدر حديثا عن دار جامعة حمد بن خليفة في الدوحة كتاب حمل عنوان «أمواج؛ سيرة عراقية» للناقد والمفكر العراقي عبد الله إبراهيم. الكتابة مقاربة لمكونين يتقاطعان بحيث يشكلان سيرة يتقاسمها الإنسان «عبد الله إبراهيم» والوطــــن «العراق»، وبينهما ثمة مساحة من التأمل لذات، اختـــــبرت زمنها في إحدى عشرة موجة تحفل بالمد والجزر، وتسرد علاقة بين الذات الصغرى الإنسان، والذات الكبرى «العراق»، فتأتي السيرة بوصفها مدونة عراقية لمثقف اختبر الحدث، وشهد تحولات وطنه.
لا شك في أن الأحداث التاريخية تأتي على جزء كبير من متن السيرة التي يصل عدد صفحاتها إلى 575 صفحة، غير أن هذه الأحداث لا تنفك عن وعي الذات التي تتلمس وجودها، وأفقها، كما هواجسها وأحلامها في ظلال وطن تعرض لتخريب لم يطل تكوينه المادي والحضاري والثقافي وحسب، إنما اتسع ليطال الإنسان الذي أصبح مدفوعاً في كثير من الأحيان إلى أن يقف على مفترق طرق، ولاسيما في كيفية توجيه وعيه الموزع بين أنا، تبحث عن جوهرها، ووطن مختطف تتعطل فيه معاني الحياة بتطورها الطبيعي، وبذلك، فقد عاشت الذات تمزقها بين قيم وقناعات، لا تمتلك ترف التأويل فتحولت إلى ممارسة تنطوي على قدر غير قليل من الألم، كون الذات لا تمتلك المساحة الكافية لأن تختبر النموذج الطبيعي، إنما عليها أن ترتهن إلى أفق يصنعه الطارئ الذي كان صنيعة الاستبداد الذي شكّل آفة العالم العربي.
هذا ملخص واقع السيرة التي اتسمت بتعدد طبقات خطابها، حيث ننتقل فيها بصحبة ذات عبد الله إبراهيم التي صاغت وعيا ثقافيا عربياً من خلال مشروعه النقدي، وقوامه نقد المركزيات، واكتناه السردية العربية، بالإضافة إلى خطاب ما بعد الاستعمار. غير أن هذه الذات لا تنفك عن واقع تاريخي، شكّل خطابا عميق التأثير في تحقيق عدد من المقاصد التي انطوى عليها الكتاب، فالقارئ كان ينتقل من ذات الكاتب إلى سيرة العراق، التي شكلت عنوانا فرعيا للكتاب، غير أنه استأثر بجزء كبير من بنية العمل على مستوى المتن، والرؤية، وكانت سببا في تفسير سياقات الشخصية ومصائرها، ولا سيما في وطن بات لا يُحتمل العيش فيه، غير أن هذا التساؤل أو التنبؤ من لدن الكاتب اتخذ وضعية أخرى بعد عقد ونصف العقد من الزمن من حيث تحقق وجوب صحته.

جماعة كركوك ومصائر اعضائها التراجيدية

ثمة في هذه السيرة – في سياق التشكل الدلالي- محاولة للوقوف على تكون الذات، وما يعتريها من مسالك ورؤى تجاه المحيط، والعالم، إذ تخلّقت في مدينة إشكالية، ونعني «كركوك» بما تحتمله من تعدد الهويات واختلاطها، وهذا ما سوف ينعكس على منظور عبد الله إبراهيم لعالمه الذي ما أن ما يستقيم حتى يتقوض. فالأسرة والمدينة والوطن بدت عوامل للتأثير على مسارات عبد الله إبراهيم الذي طوال وجوده في العراق كان يُخضع أحلامه للتأجيل، وبين هذه الفسح من الزمن، ثمة مساحة نقرأ فيها عن علاقته مع جماعة كركوك، ومصائر أعضائها التراجيدية، ولتتحول الجماعة إلى أمشاج ذكريات لزمن انقضى، حيث كان عبد الله إبراهيم يسعى فيه إلى أن يحاذي عالم الأدب عبر بوابة القصة القصيرة، غير أنه أدرك أن ظلال الكلمات لا تواتيه، فانصرف إلى البحث الأكاديمي والفكر.
يبدأ الكتاب من وحدة صغرى تتعلق بالنسب العائلي والأسرة الطفولة ومعاني الأبوة التي بدت انعكاساً لأبوة عبد الله إبراهيم، ولا سيما إدراك الأب الذي بدا منشغلاً، وضنيناً بعواطفه، ولهذا تعلق الطفل بأمه التي ما لبثت أن غادرت الحياة بمفارقة اتصلت بوفاة الأب أيضاً، مما يجعلنا نصادق على مقولة الشاعر الإنكليزي جاك برجر، بأن كتابة السيرة هي لحظة تجلي الوعي بالوحدة في هذا العالم، ولذا فهي شكل من أشكال اليتم… وفي هذا السياق هناك إحالة إلى الذات التي تفقد مرجعياتها في هذه الحياة، ومنها رحيل الأم الذي خلف ندوبا في الروح، في حين أن شخصية الأب – الذي مات ولم يقبّل ابنه- فقد صاغ لاحقاً ملامح أبوة عبد الله إبراهيم التي بدت متخففة من المظهر العاطفي المباشر، كما التعبير انطلاقاً من تأثر جيني أو مسلكي بشخصية والده، الذي كان منشغلا بعالمه الخاص، ولهذا فإن شخصية عبد الله إبراهيم «الأب» وجدت صيغتها التصالحية أو التوافقية بمبدأ الحماية والقلق والحرص على تأمين عائلته، في هذه الجزئية الأسرية، ثمة نفي لإسباغ مظهر الانتماء للسلالات الخالدة، مع رفض أي محاولة لاختلاقها، ولكن هناك إشارة إلى أن ثمة أصول تعود إلى الحمدانيين.
هذه المرحلة سوف تمضي في ظلال التأمل لواقع غياب الوالدين في سن مبكرة «الثالثة عشرة»، وبذلك نجد أن ثمة توجها إلى رسم معنى الفقد أو اليتم، الذي سوف يشكل لاحقاً جزءا من عالم عبد الله إبراهيم، وتحديداً فقدان والدته نتيجة السرطان، وما تركه هذا المرض من آثار على وجهها وجسدها، ما أضفى على السيرة نبرة بوح في هذا الموضع. كما ثمة في هذه الجزئية خروج عن التكوين النسفي المتماسك لشخصية عبد الله إبراهيم، التي تسعى إلى المحافظة على هذه الصورة عبر اصطناع القوة، وعدم الاستسلام للعاطفة التي تطفو على السطح، على الرغم من عدم إنكاره لها، ومن ذلك نقتبس المقطع الآتي: «خلال شهر التهم السرطان طرفا من الشفة العليا لأمي، فبانت لثتها الحمراء، ونخر ميناء أضراسها، بعد ذلك وانتشر التآكل في وجهها حول الفم». يرسم عبد الله إبراهيم مشهدا يتسم بقدر غير قليل من التوتر العاطفي، فهذا الحدث سوف يؤطر لسنوات شخصيته، ولكن بوصفه شخصا اعتاد ألا يتعلق بما حوله، فبغياب الإنسان، وهشاشة الوطن، تنحصر الخيارات وتتراجع الأحلام، فتمسي اللغة شفاء روحيا، أو موقفا وجوديا من العالم الذي بدا مقفراً وقاسياً. ولنتأمل المشهد الآتي الذي يصور اقتراب رحيل الأم، حيث يقول: «لم أستوعب ذلك إلا بعد موتها. غادرنا المستشفى، وقد حلت العتمة في قلبي، ومشت هي خلفي تحمل صرة ملابسها، فكأنما سنفقد بعضنا إلى الأبد».
وفي مقطع آخر يربط الكاتب بين فقد أمه من جهة، وفقد مكتبته ومزرعته من جهة أخرى، بعد أن أحرقت عام 2015 أثناء دخول القوات الكردية لمدينة كركوك، فضلاً عن قصف الطائرات الأمريكية حيث يقول: «لم تكن لي أم، ولا بستان، ولا مكتبة، ولا وطن!».
مثّل فقدان الوطن عنصرا ضاغطاً على السردية التي سرعان ما تجاوزت عوالم الطفولة، وحساسية العائلة، بجزء غير قليل من التحامل، وتبديد العاطفة، على الرغم من أنها بدت في بعض الأحيان شفيفة، وطافية على السطح، غير أن منظور الوطن ومآلاته، شكّلت المقاصد العظمى من السيرة التي بدت تأملاً فكرياً عميقاً بالأسباب والعوامل أو السياقات التي أفضت إلى تآكل معنى الوطن، وتحويله إلى ركام من التاريخ، ولكن السلبي، الذي نتج بفعل مسلكي يتصل بقيم سلطوية، أو استبدادية أحالت الإنسان العربي إلى كائن لا مستقر، مشتت، فاقد لأحلامه.

تغذية النزاعات الطائفية

في مدينة كركوك، كان ثمة تنوع طائفي ومذهبي وعرقي، ولكنه بدا مسوغاً كي تتمكن السلطة من تكريس تفوقها؛ ولذلك غذيت النزعات الطائفية والعرقية في أنحاء البلاد، فشرعت كل طائفة تخشى الأخرى، ما عمق الممارسات التي أوجدت هذا الجنون والقتل والتدمير،، فضلاً عن مغامرات عسكرية غير مدروسة، كل ما سبق عرض بنسق تحليلي تاريخي طال الأسباب والنتائج، ولكن ضمن منهجية واضحة تنهض على تأمل بالأحداث، وتمحيصها، فثمة إحالات وإشارات مستقاة من تقارير وكتب ودراسات، ومن ذلك على سبيل المثال لا الحصر كتاب «سياسات الحقيقة» للسفير ويلسون حول وقائع حرب الخليج الثانية، فضلا عن آلية المعاينة والمشاهدة، إذ نشاهد عبد الله إبراهيم، وهو في بيته، ومع عائلته أثناء قصف بغداد إبان غزو الكويت، ومن ثم نراه، وهو يكافح جرياً وراء حلمه بأن يكون كاتبا وأكاديمياً ضمن مخاض طويل، حمل الكثير من الإكراهات، والإرجاءات الزمنية، وفي بعض الأحيان تشكلت قناعات، ولكنها مع الزمان تكشّفت عن مغالطات الزمن والقدر، ولهذا فقد بدا المؤلف معنياً بوضع رؤيته في أجزاء كبيرة من هذه السيرة بهدف إبراز عبيثة الحروب، وما عاينه بوصفه عسكريا في الجيش، ومن ثم ينتقل شاهداً على ثلاثة حروب، وآتياً على الكثير من الوقائع والأحداث السياسية التي أضفت على هذه السيرة لمحة وثائقية، غير أنها بدت منسجمة مع إيقاع السيرة، كون هذه الأحداث تأتي على خلفية وقائع حياة الذات، وتأثرها بما يجري، ولعلي هنا أثمّن نسق السرد الذي بدا رشيقا، على الرغم من حجم الكتاب، فالقارئ يفاجأ بوجهات نظر، وربما أحداث، لم يكن يدرك عمق تأثيرها، وقد حفلت بلغة حملت تباينا، حيث بدت في بعض المواضع عاطفية، تكتسي ذاتية وتوهجاً، وفي بعض المواقع بدت أكاديمية ذات تعمد إلى المنطق والتحليل، ومن هنا تكمن أهمية هذه السيرة، كونها استطاعت أن تمزج بين الذاتية والتحليلية، وتقاطعهما إنسانياً، لا بوصف الثانية أمرا خارجيا إنما بوصفها ذات ضغط عميق على الذات، ولعل هذا ما تفتقده بعض السير التي لا تحسن إدراج القلق الإنساني الذي يهمش بوصفه تفصيلاً ضئيلاً في سيرة وطن، أو العكس من ذلك، فما الوطن سوى الإنسان الذي لطالما بعثرته الأنظمة الاستبدادية، ومارست القهر ضده، ولهذا سنجد أن الكتاب يمضي ليعايش انهيار وطن، وفناء الملايين من البشر.

الانتماء للانسان وليس الأيديولوجي

إن بعض الحوادث التي اتسمت بها حياة عبد الله إبراهيم، بدت أشبه بمسوغات، أو عوامل لتوجهاته الفكرية والثقافية، فمقاربته لنقد المركزيات نتجت بفعل رفض المذهبية والقبلية التي تسببت بتدمير وطنه، فلا عجب أن يؤمن بالانتماء الطبيعي للإنسان وليس الأيديولوجي، فمعظم هذه المركزيات مخاتلة، ومن هنا ينبغي تفكيكها، فلا جرم أن يعكف على دراسة السردية العربية التي شكلت جزءا من المشروع الثقافي للناقد، ليعرج على الخطاب الكولونيالي، من منطلق أن الاستعمار ما زال قادرا على التدخل في الأوطان، وتدميرها كما حصل في العراق؛ وبهذا فإن التطبيق الثقافي لعبد الله إبراهيم جاء مرتبطا ارتباطاً وثيقاً بواقعه، فلجأ إلى اللغة كونها الأقدر على النهوض بالفكر، وتعميق معاني تقبل الآخر، وهذا ما يعني شكلا من أشكال المقاومة لذاتية لا تتهرب من التزامها، فهي تسعى لأن تلجأ إلى ممارسة عقلية موضوعية، على الرغم من التداعيات التي ميزت تكوين عبد الله إبراهيم، الذي بدا على مسافة واعية من الانغماس بما حوله، بما في ذلك الأشخاص والأفكار الشائعة والاتجاهات والأحزاب والسلطة، ولهذا آثر في بعض الأحيان الانعزال والانقطاع للقراءة، والتأليف كما حصل أثناء وجوده في ليبيا، أو قطر وفي أزمنة من تاريخه في العراق.
عند تتبع أمواج الكتاب، نقرأ تسلسلاً لوقائع حياة عبد الله إبراهيم، معظمها يتزامن مع تاريخ العراق الحديث، إذ تبدأ من مرحلة السبعينيات إلى يومنا هذا، وهي تتلخص بمراحل المدرسة، فالجامعة، ومن ثم الالتحاق بالجيش، والدراسات العليا، وأخيراً العمل في الجامعة، ليتحقق الارتحال الفلسفي في ما بعد إلى عمان وليبا وقطر، ولكن يلاحظ أن كل موجة تتسم بحفر عمودي في سياقات محددة، ومنها العالم الأنثوي ممثلا بعدد من النساء اللواتي حملتهن أمواج عبد الله إبراهيم، ولكنهن لم يتخذن القدر عينه من التأثير والحظ، باستثناء «لمياء رافع» التي بدت حاضرة بوصفها الأنثوي والإنساني، والتي ربما شكلت مشروعا حياتيا إنسانياً، غير أن الظروف حالت دون ذلك، مع الإشارة إلى أن علاقته مع الانثى قد شابها دوما إحساس بيني، قوامه النزوع إلى الكبرياء، ونبذ الابتذال مع الرغبة بالأنثى.
لقد حمل عبد الله إبراهيم دفاتر يومياته كي يسجل أزمنته، أو كي يتأمل الذات – الوطن الذي غادره لأول مرة، وكان آخر ما شاهده جدارية تحمل صورة ديكتاتور، ومن ثم عاد ليجد جندياً من المارينز يحمل سلاحاً، ويقف أمام الجدارية التي محيت معالمها من جراء الحروب.

(القدس العربي)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى