«نوستـألجيريا» جمال الدين طالب… مانفيستو الموقف

محمد بن زيان

«نوستـ ALGERIA» هو عنوان مجموعة شعرية للكاتب الجزائري المقيم في لندن جمال الدين طالب، أو بتعبيره في العنوان الفرعي «فصوص الحاء والباء». وهو عنوان نص من نصوص الكتاب، نص مهدى إلى بختي بن عودة الكاتب الجزائري الذي اغتالته أيادي الغدر الإرهابي في تسعينيات القرن الماضي والكاتب الفرنسي الجزائري المولد الراحل جاك ديريدا.
بختي الذي سكنه الهاجس الحداثي وجهر ببيانه ضد القبيلة وديريدا الذي سكنه «التفكيك» بحثا عما يفكك برج بابل ويستثمر التعددية كمضاد لما يستهدف المصير من تجريد وتبديد… وكان الجمع بين بختي وديريدا في نص مرتبطا بالتفاعل، ومرتبطا بفحوى العنوان، فكلاهما موصول بالجزائر، وكلاهما يمثل جانبا من جوانب الحنين.
«فصوص الحاء والباء» للإعلامي جمال الدين طالب مشحونة إحساسا ومكثفة دلاليا، تكثيفا يصيغ الذاكرة جماليا ويعيد صياغة روح معمارية للأمكنة، نصوص اختزلت بذكاء وبشعرية إحساسا لجزائري زاده البعد المكاني اقترابا، وزادت شفافية الرؤية. نصوص تنطق بالحالة، حالة صراع بين حنين إلى ما في الذاكرة وحزن على ما آلت إليه الأوضاع وحلم بصبح جديد. ولعله من الدال بداية نصوص الكتاب بنص بعنوان «صباح الصباحات» وهو صباح يمزج بين جديد مستجد وقديم ممتد. هي «نصوص حاء» متعدد، حاء الحنين وحاء الحزن وحاء الحلم.. حاء متصلة بباء، باء البداية المتجددة المنشودة، بداية الانبعاث والميلاد المتجدد.. هي كما اختزل التعبير عنها المبدع «فصوص حاء وباء»، والفصوص دال يحيلنا الى فصوص ابن عربي، أي إلى نص صوفي يخترق وينزاح عن الضبط المعياري وعن قيد ما عبر عنه ابن عربي برق الوقت، والفصوص مرتبطة بالحاء والباء، وهما المعادل الانطولوجي لحرفي الكاف والنون وتلبس بالمكان. ويحضر المكان منزاحا عن الحصر الجغرافي، يحضر بكل الشحنات، فتحضر قسنطينة بإيقاعات المألوف، بـ«قندورة» (جبة) القسنطينيات، وبنطقها ميما بدل النون أي «قسمطينة» كما تنطق محليا، وهو نطق يتقاطع مع الإدغام في التلاوة القرآنية عندما تنطق النون ميما. تحضر المدينة بكل ما صاغ روحها وشكل تجلياتها وحبك سيرة أهلها، ويعيد المبدع صياغة حروف اسم المدينة بربطه مع ما يحيل إليها… كل حرف يفتتح مفردة تقول قسنطينة (مدينة الجسور المعلقة) في تجلياتها.. وربما يختزل حالة الوصل بها قول المبدع :»قاف القلب المعلق على القناطر».
وتحضر عنابة التي تثير حتى مقبرتها شهوة الانصهار بها ولقد استحضر المبدع ما قاله الكاتب الفرنسي ألبير كامو فكتب «عبق المقبرة التي تغري بالموت» ومثل نصه عن قسنطينة يدخل في تناص مع إرث المدينة الغنائي ومع مفردات التخاطب فيها. وتحضر باريس بكل ما تمثله من علاقة ملتبسة بتراجيديا تاريخ ما زال حاضرا في حبك العلاقة.. وتحضر لندن كمقام كثف شحن أمكنة البلد والحنين مرتبط بالمكان، وكما كتب عبد الله إبراهيم: «ليس المنفى بقعة غريبة فحسب إنما هو مكان يتعذّر فيه الانتماء». والمكان ليس تحديدات طبوغرافية وجغرافية محضة، ليس رسما هندسيا، إنه الروح، إنه الشحنات التي تصغ المخيال والحس والإحساس.. إنه أرخبيل ذكريات وأوهام وأحلام، إنه الذي يصيغ الهوية .
«نوستـ ALGERIA» عنوان يختزل بكثافة الإيحاء حمولة نحت مبدعنا من منبعها نصوصه، عنوان مكتوب بمزيج لغوي حاضر في الواقع الجزائري ويحيل إلى تعديل النوستالجيا بنوستألجيريا وهو التعديل الذي صكه جاك ديريدا الفليسوف الفرنسي الجزائري مولدا وحنينا، ما يؤكد على محورية المكان في حبك الهوية وفي صياغة ما يتصل بصيرورة المصير.
وهاجس المصير يسكن جمال الدين طالب، مصير بلد حاصرته الخسارات، وهو عنوان نص في الكتاب «خسارات»: «الخسارات قدماء محاربون.. وشرعية» و « عسكر وأقدمية».
استحضر النص ما ورد في خطاب الرئيس في سطيف لما قال: «طاب جناني» وكتب: يستفيق التاريخ من دهشته صارخا : «Quel gâchis.. تضيع صرخته بين الولولات».
يمكن اعتبار الكتاب مانفيستو تضمن المحبة والموقف، وضمن النصوص نص «القصيدة / الوطن»، الوطن الذي «يكتبنا» و «الذي يخذلنا… ونحبه». وأيضا نص « الحص ـ يدة» : «تشتبك الحبيبة تتشابك القصيدة تأتي الحص ـ يدة كانخطاف النشوة …تجيئ».
هي نصوص تنغمس لكن تنفلت عن التورط في تقريرية ترتهن بالعابر، تنفلت انزياحا بتجريد يواجه وينجز ما سماه المرحوم بختي بن عودة بالأرشفة الجمالية لذاكرة الأمكنة… هي نصوص تستنطق المحنة وتسائل اختبارها..هي نصوص تمتحن المحنة وتنتص نصا مضادا ينتصر لإرادة العتق من رق وقت رهنه من أنجزوا تراكم الخسارات وصادروا الصباح واستمروا رغم اعترافهم بـ«طاب جناني». وكما قال إلياس خوري: «بأنك كلما ارتطمت بالأدب، يمكن أن يعطيك الأدب فكرة أكثر حقيقة من الحقيقة». وذلك ما تمد به هذه النصوص المتلقي .
نصوص المجموعة كانت مقتصدة ومكثفة، وذلك مرتبط باعتبارات بلاغية وجمالية ورؤيوية.. وكل كتابة تفرز مقتضياتها وهندستها المتناسبة مع حمولتها.

(القدس العربي)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى