الروائي الألماني الكردي شيركو فتاح في متاهة العراق

انطوان جوكي

لم تعد مخفية المهارات الكتابية والسردية التي يتمتّع بها الكاتب الألماني (من أصل كردي عراقي) شيركو فتاح، بعد روايات أربع كتبها مباشرةً بالألمانية، وأبرزها «بيتٌ أبيض» (2013) التي روى فيها قصة لصّ من بغداد ونال عليها «جائزة أكاديمية برلين الكبرى». مهارات تتجلّى كاملةً في روايته الخامسة والجديدة، «المكان الأخير»، التي صدرت ترجمتها الفرنسية حديثاً عن دار Maitailié الباريسية تحت عنوان «رهينتان»، ويشكّل العراق مجدداً إطارها الجغرافي.
وكما يدّل عليه العنوان الفرنسي لهذا العمل، يسرد فتاح في «المكان الأخير» قصة شخصين تخطفهما مجموعة مسلّحة متطّرفة في الصحراء العراقية. الأول هو عالم آثار ألماني شاب يدعى ألبير وأتى إلى العراق إثر الاجتياح الأميركي من أجل المساعدة في إعادة ترميم المتحف الوطني العراقي، بعد نيله بورصة دراسة حول عمليات نهب المتاحف. ابن صحافي شيوعي يحنّ إلى زمن الاتحاد السوفياتي، يتوجّه ألبير إلى العراق للفرار من قصّته الشخصية والبحث عن مفاتيح حياةٍ أخرى أقل سديمية من تلك التي اختبرها. الشخص الآخر هو عراقي يدعى أسامة ويعمل في المتحف المذكور مترجماً لألبير بعد متاجرته خلال سن المراهقة بالقطع الأثرية المسروقة إلى جانب صديقه عبدول. ولا عجب في هذا النشاط بما أن آثار العراق تعرّضت للنهب في شكلٍ واسع خلال الاحتلال الأميركي له، وأحياناً بالتواطؤ مع مسؤولي هذا الاحتلال، وانتهت في الغرب مقابل أوراق نقدية خضراء.
ماضي هاتين الشخصيتين يتسلّط عليهما. فعلى طول الرواية، يستحضر ألبير فصولاً من علاقته الغريبة مع أخته المتمرّدة والعصابية، بينما يعاني أسامة من قصة تخلّيه يوماً عن صديقه عبدول، أثناء عملية نهب فاشلة، وفراره بجلده. وخلال خطفهما، نراهما يحلمان بالهروب، خصوصاً ألبير الذي لا يعي صعوبة مثل هذا الفعل ونتائج فشله الخطيرة. أما أسامة فيدرك أن مصلحتهما تكمن في البقاء متّحدَين، على رغم اختلاف طريقة تفكيرهما.
وفي البداية، يعتقد الخاطفون أنهم خطفوا شخصية مهمة تسمح لهم بطلب فدية كبيرة. ولذلك، يصوّرون ألبير راكعاً ومقيّداً تحت عَلَمِهم الأسوَد، تماماً مثل الصحافي الأميركي دانييل بيرل الذي انتهى مذبوحاً أمام الكاميرا. وخوفاً من عملية عسكرية لتحريره، نراهم يتنقّلون به وبمترجمه في الصحراء ويخبّئانهما في أقبية منازل مدمّرة ومعزولة أو تقع داخل قرى فقيرة يتعاطف سكّانها معهم، حيث لا يتردّدون في ضربهما وإذلالهما لاعتبار ألبير عميلاً للأميركيين، وأسامة خائناً تبنّى طريقة حياة الغربيين وتنكّر لثقافته ودينه، بينما الحقيقة هي أنه لم يسعَ في عمله كمترجم سوى إلى كسب قوت عائلته.
معرفة ألبير وأسامة ببعضهما بعضاً سطحية، لكن منذ خَطفِهما، يحاول كلٍّ منهما التعرّف إلى الآخر عن كثب، فتتغيّر علاقتهما تحت أنظارنا وتشوبها الريبة، خصوصاً بالنسبة إلى أسامة الذي يعتبر أن ألبير هو سبب محنته، ومع ذلك لا يتخلّى عنه حتى حين يتمكّن من الفرار، فيعود أدراجه ويسلّم نفسه للخاطفين لشعوره بواجب البقاء مع هذا الشاب الساذج على رغم عدم فهمه اهتمام ألبير ببلدٍ مثل بلده. وحين يدرك الخاطفون عدم أهمية هذا الأخير كرهينة، يسلّمونه ومترجمه إلى مجموعة متطّرفة أخرى لن تلبث أن تفعل الشيء نفسه معهما، وهكذا دواليك إلى أن ينتهي الأمر بهما في أيدي مجموعة أميرها عبدول بالذات، صديق أسامة السابق. مجموعات يتشكّل غالباً عديد كلٍّ منها من مراهقين مسلّحين يرفعون شعار الحرب المقدّسة على الغرب ويعتبرون رهينتيهم رمزاً لكفاحهم. ولا نعجب من جواب ألبير، حين يقول أسامة له إن مصيرهما بات في عهدة العناية الإلهية: «لا أريد أن أجرح مشاعرك الدينية، لكن مصيرنا في يد أطفالٍ مسلّحين ينشغل المسؤولون عن تربيتهم في فبركة القنابل»، خصوصاً حين ينكشف لنا مخطّط عبدول الرهيب ونعرف أنه قرر تنفيذه أثناء أحد الاحتفالات الدينية.
«المكان الأخير» رواية تصوّر من أقرب مســـافة ممكنة حالة القلق والخوف التي يعيشها مَن يقع رهينة في يد واحدة من المجموعات المتطرّفة في شرقنا. فإلى جانب إنارتها الوضع السياسي والأمني المعقّد في منطقتنا، تشكّل مساهمة قيّمة لفهم الوضع السيكولوجي للمخطوف والمهدَّد بالإعدام في أي لحظة، والأفكار السوداء التي تراوده خلال محنته وتلك التي يتشبّث بها كي لا يفقد عقله وتوازنه. وفي هذا السياق، يأخذ وصف فتاح فقدان الرهينتين بوصلتهما إثر تنقيلهما من مكانٍ إلى آخر معصوبَيّ العينين، ورميهما في أقبية وغرف ضيّقة، وضربهما وتهديدهما بالموت، كل أهميّته. وصفٌ يتوقّف بدقّة باردة عند حالة الانتظار التي تختبرها الرهينة وتستهلكها ببطء، وعند ذلك السفر الداخلي أو بالأحرى الشرود في ماضيها الذي يشكّل المكان الوحيد الذي يمكنها الفرار إليه من واقعها الذي لا يطاق.
ولبلوغ غايته،، يشيّد الكاتب بمهارة لافتة فضاءً مغلقاً (huis clos) وخانقاً يتواجه فيه ألبير وأسامة ويقيّم كل واحد منهما الآخر داخل إطار جغرافي نألفه وفي الوقت ذاته يبدو لنا غير واقعي في جانبه المخيف. فضاء يسمح لفتاح بتأمّل مدى إمكانية تحاور شخصيتيّه اللتين تتقاسمان القدر نفسه لكنهما تنتميان إلى عالمَين مختلفَين، ومن خلالهما، مدى إمكانية تحاور هذين العالمَين اللذين تفصل بينهما هوة عميقة من اللافهم وعدم الثقة، علماً أن السؤال الأهم في نصّه، الذي يحضر في شكلٍ ملحّ مثل إيقاعٍ خلفي مستمر ومقلِق، هو التالي: ما الذي يمدّنا بالعزم والطاقة للبقاء على قيد الحياة حين لا نعود نتحكّم بأي مفصل من مفاصل حياتنا؟
يبقى أن نشير إلى أن نثر هذه الرواية، بخلاف نثر الروايات الأربع السابقة، يعاني أحياناً من ضبابية قد يكون فتاح تعمّدها من أجل تجسيد حالة ضياع شخصيّتيه خلال محنتهما. لكن بدلاً من تسهيل غوصنا داخل الرواية، تربكنا هذه الضبابية وتضطرّنا أحياناً إلى العودة إلى الوراء وقراءة بعض المقاطع أكثر من مرّة من أجل تبديدها.

(الحياة)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى