«البحث عن أم كلثوم» للإيرانية شيرين نيشات: سعي بلا طائل عن هوية لا نعرف لتمزقها سببا

من نسرين سيد أحمد

يحمل فيلم «البحث عن أم كلثوم» للمخرجة الإيرانية شيرين نيشات، الذي يعرض على هامش مهرجان لندن السينمائي في دورته 61 (4 إلى 15 أكتوبر/تشرين الأول الجاري) عنوانا ينوء بحمله وينقسم تحت وطأته. رحلة بحث بلا طائل، لا تفضي إلى شيء، ولا تشفي عطشا لفهم أم كلثوم.
لا يتمخض الفيلم عن رؤية واضحة لأم كلثوم، المطربة الأسطورة ولا لشخصيتها كامرأة. نشاهد الفيلم ونفرغ من مشاهدته بدون أن نفهم مغزى بحث مخرجته أو بطلته عن أم كلثوم، وتُعيينا محاولات المخرجة لفهم ذاتها، عبر إنجاز فيلم يتناول شخصية المطربة المصرية التي تخطت شهرتها بلادها وعصرها.
اختارت نيشات لفيلمها قالبا مُركًبا، فهو عبارة عن فيلم داخل فيلم، عن محاولات مخرجة إيرانية تقيم في الخارج تدعى ميترا (نيدا رحمنيان) إنجاز فيلم عن أم كلثوم. فيلم نيشات والفيلم الذي بداخله ليسا بصدد تقديم سيرة ذاتية لأم كلثوم أو مقاربة لشخصيتها، بل هما محاولة من نيشات لسبر أغوار نفسها كمبدعة ومخرجة وفنانة وامرأة عبر أم كلثوم. في الفيلم البحث عن أم كلثوم والعثور عليها ليسا الغاية، ولكنهما الوسيلة التي تتخذها نيشات لفهم ذاتها هي.
علاقة مركبة ومربكة، وتحمل قدرا كبيرا من التشوش تربط بين نيشات، مخرجة الفيلم، وميترا، مخرجة الفيلم داخل الفيلم، وأم كلثوم، وغادة، الممثلة التي تلعب دور أم كلثوم في الفيلم (الممثلة المصرية ياسمين رئيس).
يبدو لنا أن نيشات تسعى إلى فهم شخصية المرأة عموما، والمرأة المبدعة خاصة، وإلى رسم العلاقات التي تربط بين النساء والصلات بينهن، ولكن رسم ملامح هذه الصلات ومدى تأثيرها في بعضها بعضا شابه الكثير من التخبط والتشويش.
يبدو لنا السؤال الرئيسي في الفيلم هو كيف تمكنت أم كلثوم من أن تصبح هذه الأسطورة؟ كيف تمكنت من أن تأسر لب وقلوب الملايين؟ هل اعتلت قمة المجد لأنها كانت صلدة لا تبالي بالقلب، وقطعت أواصر الصلة بينها وبين ماضيها الأسري والقروي لتصعد لذرى الشهرة؟ هل اشترت أم كلثوم الفن والمجد الشخصي على حساب أي شيء آخر؟ كيف تخطت أم كلثوم كل الصعاب، ليس فقط كفنانة ولكن كامرأة في مجتمع محافظ في بدايات القرن العشرين؟ وكيف تمكنت من أن تحظى بكل هذا الحب والتقدير من الجمهور؟
أسئلة كان يمكن نسج فيلم محكم حولها، ولكن الفيلم يتشظى ويتشعب ويسقط في هوة من التخبط، ولا يقدم لنا إجابة شافية على أي منها. نبدأ مشاهدة الفيلم ونحن نتساءل، ترى لم اختارت مخرجة إيرانية أن تنجز فيلما عن أم كلثوم؟ وما سر افتتانها بها؟ ونغادر القاعة ونحن لم نجد إجابة شافية لهذا التساؤل. تبقى أم كلثوم لغزا عصيا على الفهم، ويبقى سر تأثر نيشات وميترا بها بلا حل. لا يقدم الفيلم إضاءة أو كشفا لشخصية أم كلثوم ولا يمنحنا فهما لشخصية ميترا. تبقى أم كلثوم معبودا بعيدا تعجز المخرجة عن تفسير سر تعلقها به. كما أننا نمضي زهاء تسعين دقيقة، هي مدة الفيلم، نتخبط وسط عجز نيشات التام عن طرح مشكلتها الإبداعية وتصورها للتضارب بين حياتها كمخرجة وحياتها كامرأة وأم.
يتضح لنا أن أم كلثوم ليست الشخصية المحورية للفيلم، ولكن ميترا، التي اتخذت منها نيشات سبيلا لمناقشة ذاتها هي وحياتها الإبداعية، وبحثها عن ذاتها وتصوير أزمتها هي. ولكن الفيلم يعاني من خلل كبير في السيناريو ومن تمزق واضح في رسم الشخصيات. يخفق تماما في محاولة إيضاح مشكلة ميترا، فهي تقيم في الغرب وتدير طاقما دوليا من الممثلين، وتعمل مع منتج فرنسي، أي أنها تجاوزت كل العوائق التي تكبل امرأة شرقية مسلمة. لا نشهد في الفيلم أي تمرد من طاقم العمل ضد ميترا، أو رفضهم الانصياع لأوامرها كمخرجة، إلا في مشهد وحيد من ممثل رجل. مجرد تمرد صغير قد يواجهه أي مخرج، أيا كان جنسه، من ممثل صعب المزاج، وهي بالتالي ليست ضحية تمييز في العمل بسبب العرق أو لكونها امرأة. وفجأة بدون مقدمات، تتلقى ميترا اتصالا من إيران أن ابنها فُقد ويجري البحث عنه. تنهار إثر الاتصال، ولكن الفيلم لا يمهد لهذا الانهيار، فالفيلم لا يبني لنا الجسر النفسي بين ميترا وابنها، ولا يوضح سبب بقائه في إيران رغم إقامتها هي في الغرب. يبدو المشهد ملفقا كيفما اتفق ليضغط على نقاط التعاطف لدى المشاهد الغربي أو ليجد مسوغا لانهيار مخرجة لا يوجد أي سبب آخر لأن تواجه أزمة نفسية أو أزمة إبداعية.
يوجد عدم اكتراث واضح في الفيلم بكل الخلفية المحيطة بهذه المطربة الأسطورة التي تمنح اسمها للفيلم. صُور الفيلم في المغرب، واستعان بمجاميع مغربية لا تتقن اللهجة المصرية. الأزياء بدت غربية، تمتزج فيها الثياب التقليدية في بعض مناطق المغرب المعاصر وتصور به الكثير من الغرابة والتغريب، لما كان المصريون يرتدونه أيام أم كلثوم. لم تبذل نيشات جهدا يذكر في تحري الدقة في أزياء تلك الفترة، ولا في التفاصيل المحيطة بأم كلثوم. لا يوجد أي التفات للهجة، كما لو كان الفيلم يعلن أنه موجه لجمهور لا يعرف العربية ولا يكترث بلهجاتها. يبدو لنا القصر الذي تعيش فيه أم كلثوم بعد وصولها للشهرة أقرب ما يكون إلى التصور الغربي لقصر شهرزاد مثلا.
«ولكن أم كلثوم لم تفعل ذلك قط، لم تدر ظهرها لأسرتها وقريتها لتصعد»، هكذا تقول غادة (ياسمين رئيس)، معلمة الأطفال المصرية الشابة، التي اختارتها ميترا لتلعب دور أم كلثوم. تقولها ذاهلة ممتعضة لميترا، ولا يسعنا نحن إلا أن نكرر الذهول والعجب والتعجب لما استحالت له أم كلثوم على يد نيشات. ربما ما نخرج به بعد ساعة ونصف الساعة من المشاهدة هو شذرات من أغنيات لأم كلثوم تناثرت كيفما اتفق أثناء الفيلم.

(القدس العربي)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى