التكنولوجيا وحقوق الإنسان

زهور كرام

شكلت حقوق الإنسان تحديا حضاريا في القرن العشرين، وعبّرت مواثيقها عن ضرورة حماية الحقوق ضد كل استبداد أو قمع أو تسلط، أو اختراقٍ من شأنه أن يُحول الإنسان إلى موضوعٍ عارٍ من الاحترام والكرامة.
شكل الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، الذي تبنته الأمم المتحدة بتاريخ 10 ديسمبر/كانون الأول 1948، وثيقة الاعتراف بحقوق الإنسان، ومعاهدات لتبنيها من قبل الدول، قصد العمل بها، واحترام مبادئها، وتطوير الدفاع عنها، من خلال التربية على ثقافة حقوق الإنسان. ولهذا، عرف القرن العشرين أشكالا متعددة من النضال الاجتماعي والسياسي، الذي خاضته شعوب العالم من أجل استقلالها السياسي، وانعتاقها من السلطة الديكتاتورية، أو مُطالبتها بفك القيد عن أحلامها وحريتها وتوقها إلى حياة أكثر عدالة. وكلما ناضلت الشعوب من أجل كرامة العيش والحياة، اقتربت من ثقافة حقوق الإنسان، فكان ارتفاع إيقاع مطالب الشعوب، يُنتج أشكالا جديدة في سياسات القمع والقهر لدى بلدانٍ، ويُجبر سياسات بلدان أخرى ـ بدرجات متفاوتة- على الخضوع لمطالب مجتمعاتها، والالتزام بمواثيق حقوق الإنسان. وقد أنتج هذا التفاوت في تقدير نضال الشعوب، والاعتقاد بحقوق الإنسان، دولا ديمقراطية، فسحت المجال أمام شعوبها لكي تكون شريكة في الحكم، وفق الدستور والتعاقدات السياسية، ودولا أخرى ظلت الديمقراطية تشكل بالنسبة إليها رُعبا تاريخيا، ما جعلها تخرق مبادئ حقوق الإنسان، وتقف ضد تطبيق معاهداتها، حتى إن وقعت اتفاقيات وثيقة حقوق الإنسان. لقد انعكس وضع الديمقراطية وحقوق الإنسان في البلدان اللاديمقراطية على قيمة الفرد، وبقيت علاقته بالحرية حلما، وبالتعبير عن الحقوق مطلبا، وبالديمقراطية نضالا سياسيا. ويُعتبر القرن العشرون قرن الدفاع عن ثقافة حقوق الإنسان، وتطوير الوعي بالحقوق، وبأشكال الدفاع عنها. غير أن منطق حقوق الإنسان بات يعرف تحديا كبيرا في الزمن الحالي، خاصة مع منطق الزمن التكنولوجي، وما يوفره هذا الأخير من مساحات واسعة ومفتوحة على الحرية، التي تصطدم حدودها ـ أحيانا – مع ثقافة حقوق الإنسان.
وإذا كانت المجتمعات التي مرت بأزمنة التحول التاريخي، وخضعت بنياتها الاجتماعية والسياسية والثقافية إلى تطور، انعكس على سلوك الفرد، وموقعه وموقفه، وجعله صوتا قادرا على التمييز بين حماية شرعية حريته سلوكا وحركة وتفكيرا وتفاعلا، وبين حقوق الإنسان باعتبارها المُشترك الإنساني الذي تتوافق حوله المجتمعات على احترام بعضها، وفق المعايير المُتفق عليها قانونيا وإنسانيا وعالميا، مع احترام مبدأ خصوصية السياقات الاجتماعية والثقافية، فإن شعوبا أخرى ظلت تعرف بنياتها الذهنية والثقافية، وشروطها السياسية والاقتصادية مسافة كبيرة بينها وبين التحول الحضاري الذي يُمكنها من الوعي بأن احترام الذات، وتحصين الحرية الشخصية، يبدأ من احترام الآخر، وتحصين حريته، بعدم العبث في مساحتها.
وقد فضحت التكنولوجيا حقوق الإنسان، ومدى حضورها باعتبارها ثقافة سلوك ومعاملة وإرادة وقرار. إذ، يضع الفضاء الافتراضي المُستعمِل للتكنولوجيا أمام أكبر تحد لوعيه وثقافته وتطوره. ذلك، لأن الافتراضي زمنٌ مقبل من المُستقبل، أو بتعبير آخر، زمنٌ له علاقة بالمحتمل والممكن، ومن ثمة، فإن التواجد فيه يتطلب تحديا مُزدوجا في الوقت ذاته. من جهة: كيف تتحقق الإقامة في الزمن الافتراضي؟ هل يملك المُستعمل ثقافة الإقامة؟ وهل يتوفر على استراتيجية الحياة في هذا الفضاء؟ وكيف تنتقل شروط الحياة الواقعية إلى الحياة الافتراضية؟، ومن جهة أخرى: هل يمتلك قدرات الاندماج في هذا الافتراض؟ وهل يستطيع أن يُقيم بهذا الزمن، مع مراعاة لحقوق الإنسان التي يُناضل من أجلها في الزمن الواقعي؟ للاقتراب أكثر من هذه الازدواجية التي باتت تُشكل زمن الأزمة بالنسبة للمُستعملين الذين يتعاملون مع الافتراضي التكنولوجي بثقافة جديدة، لا تميز بين الحرية المكفولة في حقوق الإنسان، باعتبارها شرطا موضوعيا لمبادئ حقوق الإنسان، والتسيب أو بتعبير آخر، فوضى الحرية، المُتمثلة في تبخيس نعمة الحرية، وتحويلها إلى نقمة تُدمر الذات قبل الآخر، نُذكِر ببعض مظاهر فوضى الحرية، وعلاقتها بثقافة حقوق الإنسان، ونشير فقط إلى نموذجين من اختراق الحرية، وجعلها نقمة عوض نعمة.
يتمثل النموذج الأول في عملية اختراق الحسابات الشخصية للأفراد، والعبث بأصحابها، وحياتهم وتصوراتهم وآرائهم، وتمرير مواقف وصور بأسمائهم، ما ينتج عنه، مشاكل قد تصل إلى حد التفكير في الانتحار، إذا مست الجانب الأخلاقي للشخص. وهناك أمثلة كثيرة لهذا النموذج الذي بات مهيمنا، ما يدفع الكثيرين إلى مُغادرة هذا الفضاء الافتراضي، خوفا من الاحتمالات المفتوحة على العجب واللامعقول. تتحول حياة الأفراد ـ مع هذا النموذج- إلى حالة خوفِ ورعبٍ. وعليه، يُصبح التحرك في هذا الفضاء مُقيدا، ومعه تبدأ حرية التعبير والاكتشاف تتضاءل، وتنتقل فلسفة التكنولوجيا من استثمار الوسائط لاقتسام التجارب، والاستفادة منها، من أجل حياة أجمل، وفكر مُتحرر من الرأي الواحد، إلى فضاء ملغومِ، تضيع معه مبادئ حقوق الإنسان.
أما النموذج الثاني فيتمثل في عملية سرقة محتويات الفضاء الافتراضي للشخص. ونقصد بالسرقة هنا، أخذ كلام أو أفكار أو نصوص شخص، ونقلها إلى فضاءات أخرى، بدون اعتماد اسم منتجها الأصلي، أو الإحالة إلى مرجعها الأول. يُعبر هذا الاستعمال عن مفهوم خاطئ لمعنى الافتراضي، الذي يُصبح مساحة مفتوحة على العبث، وكأنها مقبلة من زمن لاإنساني، وبالتالي لا تخضع إلى معايير قانونية وحقوقية. ينتج عن هذا النموذج عدة ظواهر: أولها أنها تُؤدي بالبعض إلى التوقف عن اقتسام التجارب في المعرفة والحياة، فيتعطل منطق الوسائط التكنولوجية الذي يسمح بتطوير تبادل الخبرات الفردية والجماعية، وتطوير الذات باستثمار المعارف المقبلة من الآخرين المتعددين والمتنوعين، وثانيها، أن عدم تفعيل القانون في متابعة السارقين، على مستوى المواقع الاجتماعية، وكل محتويات الوسائط التكنولوجيا، يُسهم في تكرار الظاهرة، وبتكرارها تُصبح عادة مألوفة، وهنا الخطورة الكبيرة، إذ يُحوِل هذا النموذج السرقة إلى فعل عادي ومباح وممكن، بل الأخطر من ذلك، الدفاع عن الظاهرة وإعطائها أسماء أخرى، تعطيها شرعية التداول. وهنا، ندخل مرحلة إفراغ القيم من مضمونها، واستبدال جوهرها بقيم جديدة، لا تمت بصلة إلى القيم والتعاقدات الإنسانية، وإلى فلسفة احترام الآخر والوجود بكرامة. وهذا ما بتنا نلاحظه من تكرار ظاهرة السرقة في البحوث الجامعية، التي تفترض الأمانة العلمية. تتولد عن هذين النموذجين استعمالات عديدة، تستغل مساحة الحرية في الفضاء الافتراضي، لتعبث بخصوصيات الأفراد، وتتلصص على حياتهم، وتُفبرك صورهم، وتُلقي بهم في دوامة الرعب التكنولوجي، إضافة إلى عملية ابتكار حكايات أو صور أو فيديوهات، هدفها الأساسي إحداث فعل التدمير. وقد أدت هذه النماذج إلى تدمير أشخاص وأسر وأطفال.
إن غياب ثقافة التعامل في الفضاء الافتراضي ومعه، وغياب الوعي بحقوق الإنسان باعتبارها قيمة إنسانية، ومُكتسبا ديمقراطيا، من المفترض أن تكون سلوكا فرديا تلقائيا، بدون الحاجة إلى وسائل فرضها وإلزامها بالقوة، وضعف الوعي الديني، الذي يحضر شعارات وخطب، ويتعثر عند الممارسة والمعاملة، إلى جانب عدم تفعيل الإطار القانوني للحياة الافتراضية، كل هذا يُحوِل مفهوم الاقتسام الذي جاءت به الثقافة التكنولوجية من أجل دعم مبدأ الشراكة، وتحفيز البشرية على التواصل المُنتج، إلى مفهوم فارغ من دلالته الوظيفية إنسانيا وحضاريا.
لاشك في أن الفضاء التكنولوجي قد فك الحصار على المعلومة، وبسبب ذلك، وصلت آلام الناس وآهاتهم وصرخاتهم إلى المسؤولين عن الشأن العام، وبفعل الانفتاح على الفضاء، تم فضح الاختراقات في السياسة والمجتمع والاقتصاد والتعليم، واستطاعت الشعوب أن تحرر نفسها من قيد الحرية في الفضاء الواقعي والسياسي، وتُجرب التعبير، فاكتسبت صوتا حرا، ساعدها على تجاوز المؤسسات التمثيلية لمطالبها، التي فشلت في أداء الوساطة الفعلية بين الشعوب والسلطة الحاكمة، غير أن غياب/ضعف المرافقة الثقافية والفلسفية والعلمية لثقافة الاستعمال التكنولوجي، مع تطوير الوعي بمبادئ حقوق الإنسان حسب مستجدات تحركات الإنسان في فضاء افتراضي، يفترض حركة فكرية وقانونية من أجل حماية الحياة البشرية من كل انحراف، من شأنه أن يُفرغ المبادئ والقيم واللغة والمفاهيم من كل معنى.

(القدس العربي)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى