مسرحيّة «فئران ورجال»… حلم بحرّيّة مستحيلة

كاتيا الطويل

يُعتـــبر الأديب الأميركيّ جون ستاينبك (1902-1968) الفائز بجائزة نوبل للآداب عام 1962، من أبرز الكتّاب المعاصرين الذين لا بدّ من التوقّف عند كتاباتهم لدراسة أدب القرن العشرين ودراسة المجتمع الأميركيّ، لِما في نصوصه من إبداع وخيال منصهرين في الواقع وحبائله.

ويعدّ ستاينبك عملاقًا في عالم التأليف الأميركيّ هو الذي طرق فنون المسرح والرواية والقصّة القصيرة. وعلى رغم مرور ما يراوح الثمانين عامًا على صدور روايته القصيرة أو ما يُسمّى النوفيلاّ «فئران ورجال» (Of mice and men،1937)، ما زال هذا النصّ ينال الكثير من الاهتمام ولا يزال ممنوعًا في عدد كبير من مكتبات العالم. وتمّ نقل هذا العمل إلى شاشات السينما منذ أوائل صدوره. ففي عام 1939 تحوّل نصّ «فئران ورجال» إلى فيلم سينمائيّ من إخراج لويس مايلستون، ثمّ إلى مسلسل تلفزيونيّ، ليتحوّل في ما بعد إلى مصدر إلهام للمخرج الإيرانيّ رضا ميرلوهي الذي وضع فيلمًا عام 1972، مقتبَسًا منه ومهدى إلى ستاينبك نفسه.
وبعد عدد من الأفلام والمسلسلات المستوحاة من عمل «فئران ورجال»، تعود الرواية الأميركيّة القصيرة إلى خشبة المسرح الباريسيّ في عرض أنيق زاخر بالإثارة والتشويق على مسرح ميشودييار ، في إخراج جان فيليب إيفاريست وفيليب إيفانسيك. عرضٌ متماسك يحترم بنية الرواية القصيرة، ويضفي عليها لمسة الدراما التمثيليّة التي تحتاجها في إطار ديكور يذكّر بمزارع الولايات المتّحدة الأميركيّة في النصف الأوّل من القرن العشرين.

عاملان يتمرّدان
يدخل جورج المسرح برفقة صديقه ليني ويوضح حديث الإثنين للمتفرّج تفاصيل الزمان والمكان والعلاقة، التي تربط بين الشخصيّتين. فينقل جورج وليني المتفرّجَ إلى كاليفورنيا ثلاثينات القرن العشرين. كاليفورنيا المَزَارع والحقول والعمّال. كاليفورنيا الفقر والركض خلف لقمة العيش وضرورة إطاعة أوامر صاحب الأرض. كاليفورنيا الأحاديث البسيطة والأمسيات المنعزلة والصباحات المليئة بالأشغال الشاقّة.
إلاّ أنّ للصديقين جورج وليني خطّتهما الخاصّة. حلمهما. ملجأهما اليوتوبيّ. سيجمع الإثنان مالهما لينشآ مزرعتهما الخاصّة. لن يكتفي جورج وليني بالعمل تحت إمرة أحد، بل سيجمعان مالهما ليشتريا قطعة أرض يُنشآن فيها بيتًا كبيرًا. سيربّيان الأرانب والخنازير وحيوانات أخرى. حلم بعيد، وَهْمٌ زهريّ يدغدغ لياليهما ويساعدهما على احتمال قسوة أيّامهما وتعبهما. حلم بعيد يصفه جورج لليني كلّما اشتدّ عليهما سواد الليل، حلم يحوّل ليني إلى طفل صغير يستفسر عن التفاصيل ويكاد يشعر بملمس الأرانب تحت يديه.
فيروح المتفرّج يتعاطف مع ليني الذي يرجو جورج في كلّ مرّة أن يصف له البيت ورائحته وملمسه. وصف دقيق يطول أكثر مع تقدّم الأحداث، ليتحوّل الحلم إلى مهدّئ، إلى جرعة أمل في واقع فقير معدم، إلى كذبة كبيرة يشفق المتفرّج أن تُكشف وتتحطّم على إثرها شخصيّتا جورج وليني.
والعلاقة التي تربط ليني بجورج ليست فقط علاقة تابع بمتبوع. هي علاقة أخوّة وحبّ وتفانٍ بأسمى درجاتها. فمنذ البداية يتّضح للمتفرّج أنّ جورج هو المفكّر الصارم والعقل المتحكّم بالأمور، بينما ليني هو الصديق الضخم القويّ إنّما الساذج البسيط العقل. جورج هو صاحب الحلم والفكرة والقدرة على التحكّم بليني، بينما ليني عامل محدود الذكاء يضحك بهستيريّة مفرطة ويقتل كلّ ما يقع بين يديه ويرتبط بجورج ارتباط الطفل بوالدته.
ويتجلّى في العرض المسرحيّ التوتّر الذي يسود هذه العلاقة. فيتابع المتفرّج محاولات جورج ضبط تصرّفات ليني والسيطرة عليه، ليتمكّن من الإبقاء على الوظيفة من دون نتيجة فعلاً. فبينما جورج متمكّن من الأمور إلى حدٍّ ما، يبدو ليني مضطربًا نفسيًّا وعقليًّا وعاجزًا عن إطاعة جورج على رغم رغبته في ذلك. يبدو كقنبلة موقوتة على وشك الانفجار وخلق كارثة عظيمة. فتأتي زوجة ابن صاحب المزرعة لتزيد الطين بلّة وترمي بمجهود جورج وليني أدراج الريح.

مفهوم الحرّيّة
يجسّد جورج وليني بعلاقتهما المتينة وحلمهما الزهريّ عاملين أميركيّين نادري الوجود. يجسّدان الحلم والتفاني والتضحية والصداقة والرغبة في تحطيم الطبقات الاجتماعيّة. وعلى ما قد يجده البعض في النصّ ونهايته من قسوة ووحشيّة، إلاّ أنّ الكاتب تمكّن من الإمساك بجوهر الحبّ في أعلى درجاته. تمكّن ستاينبك من تسليط الضوء على أنّ مَن يحبّ يعرف كيف يحمي من الوجع. مَن يحبّ يختار الطريق الأصعب إنّما الأقلّ ألمًا. اختار جورج أن يجنّب صديقه ليني عقبات تصرّفاته، اختار أن يحميه من ثورة غضب أهل المزرعة وعمّالها على رغم معرفته ببساطة صديقه وسذاجته. اختار جورج ما ستنتهي به المسرحيّة كما انتهى قبلها النصّ. نهاية قويّة صادمة تهزّ العواطف وتثير الحزن.
لقد احترم جون ستاينبك خصائص الرواية القصيرة بالحجم القصير والموضوعات المحدودة، وبرع أيما براعة في فتح آفاق واسعة أمام متلقّي نصّه وترك الباب مشرّعًا أمام الجدال. فماذا فعل جورج لينقذ صديقه؟ هل أنقذه فعلاً؟ ماذا كنّا لنفعل لو كنّا مكانه؟ ما هي الحرّيّة؟ ما هي الصداقة؟ أين تنتهي حدود العقل وتبدأ أرض القسوة؟ ما هي الرحمة؟ ما هو الوفاء؟ متى يحقّ لنا أن نقرّر ومتى يجب أن نترك للأمور أن تجري في مسارها؟ … لا إجابة.

(الحياة)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى