شعرية التداعي في «صندوق الأحجار الملوَّنة»

محمد السيد اسماعيل

أسماء يس من أكثر شاعرات جيلها تجريباً، سواء في بنية قصائدها أو في ما تطرحه من عوالم غير مسبوقة، ولا شك في أن موهبتها التي تجلت في المجموعتين القصصيتين «كرسي أزرق في نهاية البهو» و «البعد الرابع» قد أثَّرت في كتابتها الشعرية القائمة على آلية السرد واصطياد التفاصيل الدالة. لكن الجديد في ديوانها الثاني «صندوق الأحجار الملوَّنة» (شرقيات) اعتمادها على التداعي الحر وابتعادها عن الحبكة القصصية التقليدية. فنحن أمام سرديات شعرية يتداخل فيها الذاتي والموضوعي مقدَّمة بضمير المتكلم، بما يعكس حضور الذات بوصفها علامة دالة على الشعرية والرؤية الخاصة للوجود.
عنوان القصيدة الأولى –والتي جاءت في 48 صفحة– دال على هذا التوجه. القصيدة ليست أكثر من «مذكرات مبدئية». فالمذكرات –عادة– لا يربط بينها رابط دلالي واحد، أنها خاضعة للمستجدات اليومية المتغايرة، ووصفها بالمبدئية يوحي بعفويتها الأولى غير الخاضعة للتنظيم، ولعل ذلك ما يفسر هذا الحجم الذي ظهرت عليه القصيدة، الأمر الذي يمكن معه وصفها ببنية «السرد الشعري التشعُبي»، إذ تدور حركة الوعي متخلصة من قيود الزمان والمكان مِن دون أن يمنع ذلك وجود إشارات زمنية ومكانية. تقول، مثلاً: «سأبدأ من الآن في معاملة نفسي/ على أنها عظيمة وعجوز/ والآن يعني في التاسعة والنصف/ من مساءٍ حار رطب/ في منتصف مايو/ القمر مكتمل/ أجلس وحدي/ وهذه فرصة طيبة/ فلربما انقلبت بي سيارة أجرة/ يقودها سائق مسطول في أي وقت/ وسقطت من فوق المحور» (ص9).
واللافت أن هذه السطور تبدأ بقفزة زمنية إلى المستقبل الذي ستكون فيه الشاعرة «عظيمة عجوز»، فهناك وجود بالقوة –أو بالوعي– في المستقبل ووجود بالفعل في الحاضر الذي تحدده بدقة. وتظهر المفارقة بين مشهد «القمر المكتمل» وبؤس الواقع وتوقع الموت في أي لحظة، وأحياناً تبدو الإشارات الزمنية مضمرة موحية بفترة محددة حين تتخيل أن سيارة الأجرة انقلبت «مِن فوق المحور/ إلى أرض كانت زراعية طول عمرها/ ظلَّ أصحابُها لسنواتٍ/ ينتظرون أن تدخل كردون المباني/ ثم دخلت فباعوها أيام الانفلات الأمني». فالجملة الأخيرة تحيل إلى فترة زمنية معروفة وهي التي أعقبت ثورة كانون الثاني (يناير) المصرية، والسطور السابقة تحمل هجاءً اجتماعياً ساخراً مِن تغليب المنفعة الفردية على العامة وموازياً لما سنراه في موضع لاحق مِن هجاء المدينة بل وتفكيكها، حين تقول: «فككتُ المدينة/ وكأنها لعبة مكعبات بلاستيكية/ كنتُ أبحث في باطنها/ عن سبب عطبها» (ص38). هذا التصور يعكس تحولاً لافتاً في علاقة الشاعر بالمدينة، إذ لم يعد يحس باغترابه داخلها أو قسوتها عليه.
أصبح الشاعر الآن قادراً على تفكيكها، بما يعني هيمنته عليها كأنها لعبة، وهو ما يظهر في مخاطبتها المدينة بندّية وتعالٍ: «قلتُ لها: يا غبية لن أرث أشياءً/ لن أورث أشياءً/ لم أمتلك بيتاً أو ابناً أو حبيباً أبدياً». فالشاعرة تمتلك ما يسمى بقوة «المستغني» ولم يعد يعنيها من أمر المدينة شيء، ولهذا فإن موقفها منها لا يأخذ –كما عهدنا في جيل الريادة– طابعاً درامياً متفجعاً، بل طابعاً حيادياً حتى في حالة الكراهية، حين تقول: «أعلن للمدينة الملوثة/ بصوتٍ محايدٍ أني أكرهها قليلاً/ ولأصدقائي المقربين/ أن مساحة الخصوصية الممنوحة لهم/ تقلصت تمهيداً لإلغائها» (ص24).
هذه المواقف الحادة تتم بحيادية وهو انعكاس لآلية الحياة المعاصرة بماديتها وإيقاعها السريع ومواقفها المتقابلة. وفي شاهد آخر توظف الشاعرة السخرية مِن المدينة ومِن المجازات المعتادة في التعبير عنها كما يبدو في قولها: «ضاقت المدينةُ/ شحَّ الهواءُ/ وجفَّت البحارُ/ هذه جملة مجازية حتماً/ إذ ليس في المدينة/ بحارٌ ولا يحزنون» (ص15). وربما لاحظنا الإيحاءات المتداولة في الدال الأخير في هذا الشاهد وعلى رغم فصاحته، فإنه يقترب من روح العامية المصرية التي أجادت الشاعرة استخدامها في أكثر من موضع، ومن ذلك قولها: «… كما أنت ما تزال/ تسرق السيجارة/ تلو الأخرى/ من علب أبيك المستوردة/ تدخنها على عجل/ ثم تطفئها في سطح مكتبك الصاج/ وأنت تعلم أنها لن تترك أثراً» (ص18).
إن دلالات «الأثاث» ذات مستويات متعددة سياسية واجتماعية وثقافية، فالمكتب «الصاج» له إيحاءاته على الطبقة الاجتماعية الوسطى أو ما يقترب منها. هو ليس وصفاً مجانياً وليس انعكاساً آلياً للواقع. وفي موضع آخر، تقول: «لا أعرف ما سيحدث/ إذا رفعتُ الصور/ التي كانت لرجلٍ/ سكنَ هذه الشقة قبلي/ عن الحيطان/ واستبدلتُ بها صوراً لحيوانات/ في طريقها إلى الانقراض/ أو لمدنٍ تصحو كلَّ يومٍ/ بذهنٍ مشوشٍ/ فتشرب نسكافيه بلاك لتصحو/ ولا تصحو ولا نيلة» (ص22).
هذا التعبير العامي الشائع الوارد في نهاية هذا الشاهد دال على الملل ولا جدوى محاولات اليقظة والتخلص من الذهن المشوش؛ ليس هذا فحسب بل إن هذا التعبير يبدو كما لو كان صادراً مِن صوتٍ آخر متجادل مع صوت القصيدة الرئيس، ما يحقق درامية الشعر، إذ تبدو الذات منقسمة على نفسها. وهي ظاهرة تتطور في مواضع أخرى تتخيل فيها الشاعرة نفسها متجسدة في شخص آخر. وكما تبدو حركة الوعي حرة في الانتقالات الزمنية، نجد مثل هذا في الانتقال ما بين المشاهدة الحسية والتوهم مِن دون تناقض بين الأمرين. بل إن التوهم والخيال الافتراضى يبدو أكثر تأثيراً مِن اعتيادية المشاهد اليومية، الأمر الذي يجعل الشاعرة تشاهد الجثث والبلدان الخربة وهراء الساسة على شاشة التلفزيون بابتسامةٍ واسعة.
وامتداداً لهذا تقوم الشاعرة بأنسنة الموت حين تقول: «الموت يجلس معنا/ على السفرة/ مثل صديق قديم للعائلة/ يستيقظ قبلنا/ ويجول بحريةٍ في البيت». في مقابل، هذه الحيوية التي يبدو عليها الموت تبدو الحياة باهتة وكابوسية؛ «القبور والكتل الأسمنتية القبيحة/ التي لا تحمل شواهد/ عن الموتى الراقدين داخلها/ وأنثى العقرب التي تمشي في عزِ النهار/ تلدغ المتسللين الذين يحبون الحياة». ومِن الطبيعي أن تشيع دوال الحصار والسأم والملل والفراغ والمتاهة والانتقال من انشطار الذات إلى الرغبة في قتلها، وهي تيمات كثيرة التردد في هذا الديوان الجديد.

(الحياة)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى