البلغاري نيكولا فابتزاروف والانتماء الشعري للقضايا العقائدية

قيس مجيد المولى

لا يُنكر أن الشاعر يعاني إشكالية حين يكون مؤطراً أيديولوجيا، وتزداد إشكاليته حين يكون مؤمنا باتجاه عقائدي ما، الذي يؤدي في أغلب الأحيان الى سطوة هذا الاتجاه على الاتجاهات الأخرى المتعددة في الشعر.
وعلى النقيض هناك من يرى أن السّمو الجمالي فوق أي من الاتجاهات تلك، وهناك من قدّم شعرا رائعا ضمن منحى واحد وعلى العموم، فإن تجربة الشاعر البلغاري فابتزاروف الذي اعتنق الفكر الشيوعي، تستحق إلقاء الضوء عليها، كونها تتصل بالجانب الذي ذكرناه، ومنه إلى شعر المقاومة ضد الاحتلال النازي. نجد في قصائد فابتزاروف وفي تجاربه الشعرية الأولى التأسيس لقضاياه الاجتماعية في الفترة 1923، أي الفترة التي سبقت مذابح الحرب الأهلية، وتتسم قصائده بشيء من الرومانسية العفيفة والإيقاعات العاطفية، سواء رصد معاناة العمال والفلاحين أو في البوح بما يكمن في خلجاته، ولا شك أن تكون أحاسسيه بهذا الجانب العاطفي المحدود، وهو على وشك عقد قرانه على الفتاة التي أحبها ولكن التحولات العديدة والصراعات والفقر والفوضى وقمع الحريات والتنكيل بالحركات العمالية حد الموت، كوّنت ملامح شعرية جديدة ضمن الواقعية الاشتراكية وما ترتب على ذلك من قراءات ووعي للمرحلة والتنبؤ بالمستقبل، إلى جانب البحث عن فرصته لكسب لقمة العيش التي وجدها في البدء في مدرسة الميكانيك البحرية، وقد كانت هذه الفترة في حياة الشاعر فابتزاروف هي المرحلة المبكرة للمزيد من القراءة، وتكوين شخصيته الشعرية والفكرية، وفي عام 1926 بدأ بكتابة أولى قصائدة التي نال بها القبول والإعجاب ممن سبقوه بالتجربة الشعرية. اتصف شعره في هذه المرحلة بالتخلص من تأثيرات الاتجاهات الواقعية، بل وقف بالضد منها كليا، لكنه كان يتأرجح ما بين العاطفة والانطواء، وقد يعود سبب ذلك إلى نشأته العائلية وطبيعة علاقته بوالدته دون والده. والمهم أن تجربته الشعرية ما زالت وقتها في دور التكوين باتجاه المد الثوري، حيث ما زالت عاطفة الأنا دفاقة في ذاته:
الطمأنينة القلقة
هي اليوم بالمرصاد في بيتنا الصّغير
لقد انتهت المعركة يا حبيبي
ولكنك أنت لا تعود
ومع ذلك فقد استصرختك، وبكيت
فلماذا لم تسمعني
وأوحشت غرفتنا حتى لأختنق،
وتعلم بأنني غيورة يافرناندس
لماذا لا تقبلني
في المرحلة الثانية مرحلة الانتماء الشعري لقضيته العقائدية عبَرَ فابتزاروف في قصائده عن الكثير من المعاني النضالية، وعن مشاعره وانتمائه ضمن مفاصل وطنه، وقد عبّر عن ذلك باللغة الجماهيرية التي تنادي بالاستقلال والحرية ووحدة القوى العمالية العالمية، وقد ورد العديد من المفردات التي تؤشر مدى إلى توغل تلك المفردات في مضامين قصائدة ولعل (الحرية الدامية- النشيد ـ الرصاص ـ الظلمات ـ الدم ـ القبعة ـ المصنع- الأعلام ـ الصناديق ـ المتاريس) وغيرها من المفردات التي شكلت صوره الشعرية في مواجهة النازية والدفاع عن مصير شعبه، ولذلك كانت نصوصه على درجة من الإتقان في وصف وتحريك الوقائع مستلهما من التجربة الروسية في بعديها السياسي والأدبي وسيلة إيصال ومزاوجة لتجربته في حالتيها، سواء السياسية منها أو الأدبية، ونرى بعد ذلك وعلى المستوى الشعري قد تعمقت آماله وتغلغلت مفردات العاطفة من جديد في وتريات قصائده، وظهر تأثير الأدباء الروس الكبار على مجمل نشاطه الأدبي، فبدأ كل شيء ينضج إلى أقصاه في مخيلته وفي فكرة، فرأى أن المزاوجة بين طرفي النضال أمر يأتي طواعية، حيث الانفعال الثوري الذي صور به الفاقة والجوع من جهة، والإصرار من جهة أُخرى، ونجح أن تكون قصائده خطابا شعبيا لنفوس حائرة ولكنها كانت بنفسٍ عميق :
وعلى بلاط الرصيف
يرقد رجل قتل في كمين
السماء مشحونة بالمتفجرات
تنهار بضوضائها في الساحة
والرجل الذي يضطجع هناك
في بركة
من الدم
هو أخي،
إن المأساة الدرامية لخصها الشاعر في قصيدته «أغنية وداع» التي كتبها إلى زوجته عشية إعدامه من قبل السلطات النازية، لكونه أحد العناصر الفعالة في مواجهة التسلط النازي، لخص بتركيز عال حبه لزوجته في أبهى الصور الشعرية، وكأنه أراد أن يقول إن خيالاتنا الباقية هي نحن وإن رحلنا عن العالم:
سآتيكِ أحيانا في غفوتك
مثل زائرٍ بعيد، غير منتظر
فلا تتركيني أنتِ خارجا على الطريق
ولا توصدي بوجهي الأبواب
سأدخل دون ضجيج، وأجلس بهدوء
وعيناي مسمرتان في الظلمات على وجهك
وعندما أكون تأملتك حتى استنفدتُ النظرَ
سأطوقكِ
ومن ثم
سأمضي
ومضى الى مصيره الذي أراد في الساعة الواحدة ظهيرة 23 يوليو/تموز 1942 بعد أن قال الجلاد الكبير لجلاديه:
كفى ما بكم لا تنتظروا،
إسرعوا لدينا أعمال أخرى

(القدس العربي)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى