فيلم ‘الرحلة’ لمحمد الدراجي صورة مجازية للعراق ما بعد الانهيار

امير العمري

عرض في الدورة الـ61 من مهرجان لندن السينمائي فيلم “الرحلة”، خامس الأفلام الروائية الطويلة للمخرج العراقي محمد الدراجي (39 سنة)، صاحب “أحلام” و”ابن بابل” و”بين ذراعي أمي” و”تحت رمال بابل”.

اشترك في كتابة سيناريو فيلم “الرحلة” مخرجه محمد الدراجي مع البريطانية إيزابيل ستيد والتي أنتجت معظم أفلام الدراجي بما فيها هذا الفيلم، ومن المفترض أنه يكشف لنا تدريجيا عن عقلية فتاة تعتزم القيام بعملية انتحارية، وهي الفكرة التي يوحي بها مدخل الفيلم قبل نزول عناوينه.

في الـ30 من ديسمبر 2006، أول أيام عيد الأضحى (ليس مصادفة أنه يوم إعدام صدام حسين) تتجه فتاة تدعى “سارة” إلى محطة قطارات بغداد المركزية، تنزع غطاء الرأس، تسير بثبات وقد لفّت حول وسطها حزاما ناسفا، تعتزم تفجير نفسها داخل المحطة أثناء الاحتفال الرسمي بإعادة افتتاحها بعد أن كانت مغلقة بسبب ما تعرضت له خلال الحرب على العراق من دمار. لماذا إذن ترغب “سارة” في قتل أكبر عدد ممكن من الناس ومن الذي دفعها للقيام بذلك؟ وهل ستجذب الفتاة المفجر فعلا أم ستتراجع في آخر لحظة؟ هذه الأسئلة تلح علينا ونحن مازلنا في بداية الفيلم.

“سارة” هي نموذج قد يذكرنا بما سبق أن شاهدناه في فيلم “الجنة الآن” لهاني أبوأسعد، إلا أن مسار فيلم “الرحلة” (وهو بالمناسبة عنوان غير موفق لفيلم لا يقوم أصلا على شكل الرحلة كما سنرى) لا يكشف كثيرا عمّا يكمن داخل عقلية هذه “الانتحارية” الشابة، فسرعان ما يتجه ليعكس صورة متعددة الأوجه، لما أصبح عليه العراق بعد الغزو، وما أصبح عليه الإنسان العراقي بعد كل ما تعرض له، سواء في عهد صدام حسين أو ما بعده.

تدور أحداث الفيلم كله في محطة القطارات: أرصفتها وبين قطاراتها، ساحتها الرئيسية وردهاتها وجنباتها ومخازنها وسككها المهجورة على نحو يذكرنا بفيلم “باب الحديد” الشهير ليوسف شاهين. يستوحي الفيلم بعض تقاليد الواقعية في اعتماده على التصوير المباشر في الموقع، وعلى خلط الممثلين المحترفين بالممثلين الثانويين غير المحترفين، وإذا كان يستوحي من واقعية فيلم “المحطة المركزية” (1998) للبرازيلي والتر سايلس، مقتربا في البداية من النموذج الإنساني الغامض الذي تمثله “سارة”، إلا أنه سرعان ما يبتعد عنها مستغرقا في تصوير نماذج إنسانية مختلفة ترتبط بالمكان أي بالمحطة التي تصبح معادلا مجازيا لبغداد أو لعراق بعد الحرب.

شخصيات في عالم المحطة

هناك فرقة موسيقية تعزف في أحد الأركان. قائد الفرقة رجل قضى 22 عاما وراء القضبان في سجون نظام صدام.. خطيبته التي تجاوزت منتصف العمر تصرخ فيه، تطالبه بضرورة حسم أمره بعد أن ظلت تنتظره طويلا، فما الذي سيحدث لها الآن: هل ستصبح زوجته أم سيعتبرها عشيقته أم حبيبته أم ماذا؟ متى يتزوجان؟ أما هو فيتذرع بأنه لا يعمل وأنه مازال يتلمس طريقه بعد ضياع كل تلك السنين “تحت الأرض”.

هناك الطفلة “منى” بائعة الورد التي تتحايل من أجل العثور على ما يسدّ الرمق، تتساند على شقيقها الصغير “عمر” الذي يعرج بساقه جراء إصابته بشظبة من شظايا الحرب، وهو يحمل صندوق أدواته ويلهث من أجل الحصول على روش ليلة مقابل تنظيف أحذية الرجال. من الواضح أن الاثنين فقدا عائلتيهما في الحرب وأصبحا يتخذان من محطة القطارات مكانا للعمل والمأوى. لكن “منى” لا يزال يراودها الأمل في العثور على الأم وعلى ادخار ما يكفي لبناء منزل يأوي العائلة بعد أن يلمّ شملها. هناك أيضا فتاة شابة ترتدي الأبيض، تبدو مضطربة، زائغة النظرات، تريد الفرار من مصير تدفعها إليه أمها التي تريد تزويجها من رجل لا تحبه.

أما “سلام” فهو الشخصية الثانية الموازية لشخصية سارة والمتناقضة معها في آن. إنه شاب عابث صعلوك ونصاب محترف، ينتظر بدوره القطار، يعرفه جميع العاملين بالمحطة، يستغل الوقت لاصطياد الزبائن الذين يمكنه أن يبيعهم أطرافا صناعية يقول إنه متخصص في المتاجرة بها (صورة أخرى من صور العيش على الخراب الذي خلفته الحرب) لكنه في الحقيقة على استعداد لأن يتاجر في أي شيء وكل شيء. يحاول “سلام” التحادث مع سارة، يريد أن يعرف من هي وماذا تفعل في المحطة، أما هي فنظراتها الصارمة تكاد تكشف طبيعة مهمتها الدموية. يظنها سلام فتاة من الباحثات عن زبون، وعندما يتجرأ ويتحرش بها تكشف له عن مفجر الحزام الناسف الملتف حول بطنها وتدفعه أمامها، تهدد بنسفه معها، وتدخله داخل أحد المخازن المهجورة في المحطة وتتصل تليفونيا بمن يخربها بضرورة ألا تتركه يذهب بعد أن أصبح يشكل خطرا عليها لمعرفته بحقيقتها.

المحطة مليئة برجال الشرطة وبعض جنود المارينز الأميركيين الذين يقومون بتفتيش كل من يشتبهون فيه، فالمحطة على وشك أن تستقبل عددا من كبار المسؤولين بينهم السفير الأميركي والسفير الفرنسي اللذين ينتظر وصولهما في القطار القادم من البصرة الذي تأخر عن موعده.

تتعقد الحبكة أكثر عندما تهرع امرأة منقّبة تطاردها الشرطة، تلقي بحقيبة صغيرة في يد “سلام” وتفر هاربة.. يعثر هو في الحقيبة على طفلة رضيعة. يسقط في يده.. تحاول “سارة” إقناعه بالتخلّص منها ولكنه يرفض ويتشبث بها. من هنا يبدأ التحول، أي الكشف عن الوجه الإنساني لسارة، لكن هذا التطور الأساسي في الحبكة لا يتعمق فيه الفيلم كما كان ينبغي، فكلما لاحت الفرصة لتطوير الحبكة والسير بها إلى الأمام، يرتد الفيلم مجددا ليوالي تركيزه على الشخصيات الثانوية في استعراض أفقي فنرى مثلا كيف يتعرض عمر ماسح الأحذية وشقيقته منى لاعتداء من جانب عصابة من الأطفال الصغار، يسرقون ما كسباه من مال قليل، ويوسعونه ضربا، ونشاهد رجلا يرتدي ملابس عسكرية بالية، ربما كان جنديا في جيش صدام، فقد عقله وأخذ يهذي بكلمات غير مفهومة عن الحرب الحاسمة القادمة، كما نرى شيخا جاء بجثمان ابنه الذي قتل في تفجير انتحاري يريد الذهاب لدفنه في بلدته.. وهكذا.

 

السرد والزمن

يسير السرد أفقيا وفي زمن واحد دائما هو الزمن المضارع. ولا نكاد نغادر المحطة، والفيلم كله يدور في يوم وليلة. ربما كان من الأفضل أن ينتقل السرد إلى الماضي أحيانا ليلقي ضوءا ولو على شكل تداعيات سريعة تسلط الضوء على ماضي سارة ودافعها لسلوك هذا الطريق. لكن السيناريو يكتفي باستخدام الحوار عندما نراها تصرخ في وجه سلام، مفصحة عن قناعتها بتفجير نفسها وقتل الآخرين جميعا، من أجل “تطهيرهم” من الخطيئة وتطهير المكان من “دنس الاحتلال”، وهي أفكار تستند إلى مفهوم الخطيئة والتكفير كان يجب تعميقها بشكل أفضل.

أصبح المشاهد الآن يدرك أن سارة لن تفجر نفسها، وأصبحت تتنازعها مشاعر متضاربة، ضرورة أداء “الواجب” من جهة، ومن جهة أخرى رفض الموت واختيار الحياة. الطفلة الصغيرة الرضيعة رمز البراءة والتطلع للحياة هي التي ستفجر أزمة سارة. غير أن “سلام” ليس أفضل من يمكنه مواجهة سارة فكريا وإنسانيا. في لحظة ما يحدّثها عن بشاعة القتل، ويدعوها إلى الحياة، يعترف بما اقترفه في حياته من خطايا، لكنه يؤكد لها أنه لا يسبب الأذى سوى لنفسه فقط. خطابه هذا لا يبدو متسقا مع شخصية انتهازي يعتاش على الخراب فليس منطقيا أن يصبح فجأة فيلسوفا ينادي بإعلاء القيم الإنسانية.

هناك دون شك مشاهد كثيرة جيدة في الفيلم مثل مشهد اعتقال سارة وسلام والتحقيق معهما من جانب الجنود الأميركيين ثم إطلاق سراحهما، وهو مشهد يتميز بإيقاعه الواقعي السريع اللاهث وحركة الكاميرا المهتزة التي تساهم في خلق نوع من الإثارة. وهناك أيضا مشهد ركوبهما القطار الذي يغادر المحطة ثم يقع انفجار يعطل سيره فجأة ويدفعهما للعودة إلى المحطة مع باقي الركاب الذين يفرّون في فزع وهي صورة واقعية تعرفها بغداد بشكل شبه يومي.

رغم هذا تظل هناك بعض النقاط الغامضة في الفيلم فنحن مثلا لا نفهم علاقة “سارة” بخاتم الزواج الذي أرسله إليها شخص ما عن طريق ماسح الأحذية “عمر” الصغير ثم رأيناها بعد ذلك تلقي به في اشمئزاز وغضب وكأنها تخلصت من شخص كانت مرتبطة به، فمن هو، وهل له دور في تبنيها العمل الإرهابي؟ وهل هو ذلك نفسه الشخص الذي يتصل بها هاتفيا بين حين وآخر ويعطيها التعليمات؟ ومن هي “الحاجّة” التي تقول إنها أقنعتها بالقيام بهذه العملية؟

مع حظر التجوال ثم الانتقال إلى المساء فالليل، يبدع الدراجي مشاهد شديدة الجمال منها صعود سلام وسارة فوق أحد المباني إلى السماء حيث يتطلعان نحو الأفق وتبدو المدينة هناك الصامتة تتلألأ تحت الأضواء، وفجأة تنطلق الألعاب النارية احتفالا بالعيد.

تتسلل سارة إلى المقابر بحثا عن مكان تختبئ فيه من مطاردة الشرطة لها بعد الاشتباه في أمرها. توزيع الإضاءة والتكوين في الصورة يضفي على الصورة طابعا جماليا رصينا يفيض بالحزن والأسى، والدراجي يمتلك رؤية تشكيلية رفيعة برزت في أفلامه السابقة تتجسد هنا كأفضل ما يكون. إنه يعرف كيف يستخدم الضوء والظل، وكيف ينتقل من النور إلى الظلام، ومن الوجوه في اللقطات القريبة إلى الأجسام التي تتحرك وتلهث وتشق طريقها داخل الأماكن الضيقة أو تواجه السماء المفتوحة.

 

مناجاة

تتطلع سارة إلى السماء حيث ينبثق ضوء ساطع.. تصرخ بصوت مسموع: هل هذا وعدك لي؟ هل هذا هو العرس الذي وعدتني به؟ لماذا أتيت بي إلى هذا المكان؟ إنها تبكي وتصرخ بتساؤلات وجودية معذبة في واحد من أفضل مشاهد الفيلم: إنها تطلب فرصة واحدة فقط. لا شك أنها تغيرت بعد أن بدأت في التشكك. لقد فقدت اليقين الأعمى. وبدأت في طرح تساؤلات عن مغزى وجودها في الحياة.

من أكثر الجوانب الفنية تميزا في الفيلم الصورة الجيدة التي يقف وراءها مدير التصوير دريد منجم، والذي عرف كيف يحيط بتضاريس المكان ويجعله حاضرا طوال الوقت كجزء أساسي من موضوع الفيلم نفسه، مع حركة الكاميرا التي تتميز بالحيوية والثقة والقدرة على التسلل في الأماكن الوعرة والتقاط أدق التفاصيل، كما يتميز الفيلم بشريط صوت معبر يكسب الفيلم هويته: أصوات الأذان القادمة من خارج الصورة، ترتيل القرآن، فرقة الإنشاد الديني (الذكر) التي تعبر فناء المحطة، المقطوعات التي تعزفها الفرقة الموسيقية الموجودة في المحطة: الموسيقى الجنائزية الحزينة في مشهد الجنازة، والموسيقى الراقصة المرحة في مشهد الفرح، والانتقال بين الموسيقى الناعمة والصاخبة، وبوجه عام منح وجود الفرقة الموسيقية جوا خاصا على الفيلم كما حدد مصدر موسيقى الفيلم تأكيدا على الطابع الواقعي.

من بين جوانب التميز في الفيلم أيضا الأداء التمثيلي خاصة حضور الممثلة زهرة غندور (في دور سارة) التي يتطور أداؤها مع تطور السرد، فتتخلى تدريجيا عن التجهم والتحديق المخيف في الفراغ لتصبح أكثر تفاعلا مع المكان وإحساسا به وبغيرها من الشخصيات، فهي تنتقل من حالة اليقين المطلق إلى التشكك قبل أن تعود في النهاية إلى إنسانيتها. أداء أمير جبارة الدراجي في دور سلام جيد لكنه يميل أحيانا إلى الكاريكاتورية والمبالغة، ربما للتخفيف من وطأة الموضوع.

كيف أفلتت سارة من التفتيش الدقيق من جانب الجنود الأميركيين دون أن يتمكنوا من اكتشاف الحزام الناسف المربوط حول وسطها؟ وما الذي سيحدث لهذا الحزام بعد أن فشل سلام في العثور على صديقه الكهربائي “حسين” الذي أخبرها أنه يمكنه أن يقوم بتفكيكه؟ وما الذي سيحدث لهذا الثنائي، وما هو مصيرهما، وما معنى توفيق أوضاع الشخصيات التي سبق أن رأيناها حائرة ممزقة: العروس التي كانت تعتزم الفرار ستتزوج الآن وتصبح سعيدة، والرجل المتردد يحسم أمره ويفي بوعده لخطيبته، والشيخ الحزين يتسنى له أخيرا شحن جثمان ابنه لكي يدفنه في موطنه، لكن ليس مهمّا العثور على إجابات ففي الصورة المجازية كل شيء ممكن.

 

(العرب)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى