العرض المسرحي «نزهة في أرض المعركة»: المزيد من النياشين فوق جثث الشعوب

محمد عبد الرحيم: «نزهة في أرض المعركة» نص مسرحي قصير ــ من نصوص الفصل الواحد ــ للكاتب الإسباني فرناندو آرابال، كتبه عام 1952، ويعد امتداداً لمفهوم مسرح العبث، الذي انتهجه آرابال وأصبح أحد أعلامه. العبث هنا لا يكمن في اللغة ولا دلالاتها، كما اقترب منها وجسّدها صمويل بيكيت في عمله الأشهر «في انتظار جودو»، الذي فتح الأفق أمام كُتّاب المسرح. آرابال هنا يقترب في مباشرة أكثر من المواقف والموضوعات الأشد والأكثر عبثية، ألا وهي «الحروب» وجدواها، لتصبح نصوصه أشبه بالكوميديا السوداء، التي تحاول أن تتمثل واقعاً أكثر عبثية من الخيال الفني. وبما أن الحروب لن تنتهي، وقادتها يعيشون على جثث شعوبهم، مُصدرين أوهام العداءات والمؤامرات المتربصة، وكل هذه الأكاذيب. هذه الفئة حتى تعيش وتزداد قلاداتها ونياشينها، وانتصاراتها الأكثر وهمية، لن تتحقق إلا بالمزيد من الجماجم لأشخاص لا يعرفون شيئاً، وبالكاد تبدأ حيواتهم البسيطة وأحلامهم الأكثر بساطة، ما بين الحب والعمل.
وعلى مسرح الهناجر في دار الأوبرا المصرية جاء العرض المسرحي المصري «نزهة في أرض المعركة»، الذي أداه كل من .. أحمد السلكاوي، مروة رضوان، نمير القاضي، مصطفى سالم، وأحمد طارق. ديكور أحمد أمين، إضاءة أبو بكر الشريف، ملابس أسماء عبد الشافي، موسيقى محمد عبد الله، إعداد وإخراج أحمد فؤاد.

في ظِل الماضي المجيد

من خلال جندي شاب يصل إلى نقطة على الحدود مع الأعداء، يشعر بالملل من الانتظار، فهو وحيد لا يعرف ماذا يفعل بما معه من أسلحة وقنابل يدوية، فقط يقضي وقته في غزل الصوف، ولا سبيل إلا مكالمات قائده العسكري، والبيانات العسكرية الغارقة في السخرية، فبينما تنجح القوات في إصابة عدد من جنود الأعداء، إلا أن الخسائر دائماً هي نفسها في صفوفهم، بفارق جندي واحد لم يزل على قيد الحياة. هذا هو معيار الانتصار.
وفي ظل الوحدة والملل يأتي والد ووالدة الجندي لزيارته في أرض المعركة، ليصبح الماضي العسكري للأب هو اللحظة الممتدة التي لن تنتهي، ماضي الرجل حيث الحصان والسيف، فلم تزل روح القرون الوسطى هي التي نعيشها الآن. يتغنى الرجل ببطولاته، وينعى حظه بأنه لم يصبح شهيداً، حتى يتسمى أحد شوارع المدينة باسمه، كما حدث للعديد من الأصدقاء والزملاء في الحرب. شوارع تحمل أرقاماً، وقد تحوّل الشهداء إلى مجرّد أرقام، وهكذا يتناسون اسماءهم واسماء رفاقهم، هكذا يتشيئون، ويصبحون أحد أدوات لهو القادة، أو ما يُطلق عليها (الحرب).

الأخ العدو

ويأتي السيد الأسير، وهو جندي تخطى بالخطأ الحدود، نتيجة تدحرج كرة الصوف التي يتسلى بها بدوره، هنا يصبح أسير الجندي الأول وأسرته، لكنهم يكتشفون مدى التشابه بينه وبين ابنهم، السن نفسه، لا يعرف شيئاً عما يحدث، ولا يدري لماذا هو هنا، وكيف يُحارب، وسيحارب مَن؟ فالبيانات نفسها يسمعها من جانب قادته، وتصوير الأعداء، كما يُقال للجندي الآخر، فكل منهما متشابه حد التطابق. هنا يكتشفون مدى الأكاذيب، وعلى الجنديين إبلاغ قادتيهما والجميع بمهزلة ما يحدث. هنا يتفق القادة الأعداء ــ شكلاً ــ والأكثر توافقاً، على إبادة وتدمير الجميع، الذين تنهال عليهم الطلقات وهم لا يعرفون ماذا يحدث، ومَن يضرب مَن، فقط يستظلون بمظلة الشمس، بما أنهم في الأساس في نزهة، من أكثر النزهات سخرية وألما.

العرض المسرحي

حاول العرض قدر الإمكان التواصل مع أفكار النص، ومحاولة ترجمتها عرضاً يبدو بسيطاً كما الأحداث، وعميقاً كما بعض العبارات. لم يغب الحِس الكوميدي الذي يؤصله النص، وعن طريق الممثلين الذين يجيدون أداء الكوميديا العفوية غير المصطنعة ــ أحمد السلكاوي/الأب ــ حاول العرض التواصل أكثر من الجمهور، خاصة وهو يستعرض قضية شائكة، لا يمكن معالجتها إلا بالسخرية منها، بدون طنطنة أو جعجعة، كنا سنغرق بها إذا ما تخيلنا أن النص لأحد الكتّاب العرب.
من ناحية أخرى جرّد العرض الحدث من مكان محدد، حتى يعمم هذه الحالة، فلا دولة بعينها ولا جيش بعينه مقابل آخر ــ بالطبع كانت ذكريات الحرب العالمية الثانية والحرب الأهلية الإسبانية سبباً في كتابة النص ــ التجريد هنا جعل الحالة أكثر إنسانية وصالحة لأي مكان وزمان، وهو ما يحدث بالفعل في الوقت الراهن، وسيحدث مستقبلاً، طالما أن هناك المزيد من أكثر المخلوقات سخفاً وهزلاً، أو من يسمون (القادة العسكريين).

(القدس العربي)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى