رسائل كافكا إلى ميلينا عشق بلا لقاء

ممدوح فرج النابي

في عام 1997 ظهرت “رسائل كافكا إلى ميلينا” باللغة العربية وقد ترجمها الدكتور الدسوقي فهمي عن الهيئة العامة لقصور الثقافة، وأعيدت طباعتها هذه السنة عن دار روافد للنشر والتوزيع بالقاهرة، وفي مطلع هذه السنة أيضا ظهرت ترجمة جديدة لهذه الرسائل لهبة حمدان ومراجعة وتدقيق محمد حنّون، عن «دارالأهليَّة» (2017). الترجمة الأخيرة وفقا لما تقول المترجمة “ترجمة مكتملة، لم يتم حذف أيّ من الحقائق التي ذكرت بالرسائل الأصلية؛ ليتسنى للقارئ أن يعيش قصة حب كافكا وميلينا ويترقبها لحظة بلحظة، وليستشعر حضور روحيهما بين ثنايا سطورها”.

 

رسائل الوصل

تمتاز هذه الرسائل بأنّها تُقدِّم لنا لمحة من امتداد شخصية كافكا لا يمكن أن نعثر عليها في كتاباته الإبداعية كما يقول الدسوقي فهمي، التي تخلط الواقع بالحلم، لتنتهي بهذا الامتزاج إلى إنجاز أمثولات أسطورية معلَّقة في عالم الحياد المتأمل؛ ومقيدة مكتوفة في قالب الشكل الحديث الذي انفرد به؛ كما أنها تسهم في الكشف عن إمكانية روحه للمعايشة في الواقع والافتتان به إلى هذا الحد.

على خلاف قصص العشاق بين الكُتَّاب بدأت علاقة الكاتب الألماني فرانز كافكا بالمترجمة والكاتبة التشيكية ميلينا جيسينسكا المولودة في شهر أغسطس عام 1896 ببراغ، عن بعد، فلم يحظ العاشقان في البداية إلا بلقاء وحيد وسريع شبه صامت في فيينا وكانت شبه غريبة ووحيدة هناك، ثمّ كان اللقاء الآخر بينهما عندما ترجمت ميلينا رواية لكافكا، كان وقتها كافكا في السادسة والثلاثين من عمره.

هذه الرسائل المتبادلة، وإن كان الجزء الثاني الخاص بميلينا قد أتلف، لا تمثل “مراحل علاقتهما، ولكنها كانت هي الحب بينهما”، وهذا ما فسر استمرار كتابة الرسائل بينهما وهوسهما بمكاتب البريد والطوابع، وكأنهما كانا يشعران بالشفقة على بعضهما مما يتعرضان له في حياتهما، حتى تحولت مراسلاتهما إلى هوس يقضّ النوم من عينيهما.

تبدأ الرسائل بالتحديد في أبريل 1920. ويتذكر فيها اللقاء الأول، وتنتهي في أواخر نوفمبر 1923 في برلين، أي أن المراسلات استمرت بينهما ثلاث سنوات، تخللتها بعض البطاقات البريدية. أشار في بعض منها إلى أسماء الأيام التي كُتبتْ فيها وكذلك الأماكن التي تقاسمتها ميران وبراغ، والمرة التي تغير فيها المكان إلى فيينا كانت ضمن برقية يخبرها فيها بوصوله وجاءت بتاريخ 29 يونيو 1920. لكن في الحقيقة إن الرسائل الموجودة هنا تغطي عام 1920، ثم تقفز إلى نهاية مارس 1922، دون ذكر لعام 1921 تمامًا، لكن مع رسالته الجديدة يشير إلى حالة التوقف هذه فيقول “لقد مضى وقت طويل منذ أن كتبت لك سيدة ميلينا”، ثمَّ يوضح السبب في معاودة الكتابة من جديد.

الغريب أن عدد رسائله قلت بشكل ملحوظ فلم يرسل لها سوى رسالتين، كما تغير شكل الخطاب لها من عزيزتي إلى عزيزتي السيدة ميلينا. في حين غلب على رسائل عام 1923 ذكر فشله في الكتابة، وإن كانت حوت الكثير من قراءاته المتنوعة، ومتابعته لمقالاتها المترجمة. أما رسائلها هي فكانت وفقًا لما جاء في ردوده، كانت تصل من فيينا. جاءت الرسالة الأولى لتعكس حالة من الانتشاء بهذه الذكرى لدى كافكا، فيستفيض بشرح مشاعره وهو تحت تأثير انقطاع المطر في هذه المدينة الغريبة وشعوره بالوحدة.

 

العاشق القلق

بعد الرسالة الأولى التي أرسلها من ميران والثانية من براغ، يرسل رسالة جديدة تظهر قلقه وعتابه على عدم الرد إلا أنها تظهر تلهفا عليها، وحبا لها فيقول “لا أتحمل ضياع لحظات السكون التي أعيشها حين أقرأ كلماتك”، ومرة ثانية في ذات الرسالة يقول “عزيزتي أريد أن تكوني سعيدة فحسب”. وبعد رسائل قليلة نستشعر بأن تواصلاً حدث بينهما، فقد بدأت رسائلها تأتي وكذلك أخبارها، ومع اطمئنانه على زوجها إلا أنه يظهر حالة القلق عليها، فيتساءل “هل يعاملك بلطف في المنزل؟”.

حضور ميلينا لا يتأتى في الرسائل وفقًا للخطاب الاستهلالي الذي تبدأ به الرسائل كعزيزتي وإن كانت تنتهي بعزيزتي السيدة ميلينا، وإنما حضورها يتأتي عبر خطابات مباشرة لها على هيئة أسئلة عن علاقتها بزوجها، وأيضًا عن أعمالها المنشغلة بها الآن، وبالمثل عمّا اعتراها من مرض.

لكن الحضور المهمُّ والمؤثر وهو ما يعكس العلاقة نفسها وإلى أي مدى وصلت، هو الشعور بما تفعل، فيصفها لنا أثناء قيامها بالترجمة هكذا “أجد نفسي أراك بوضوحك أكبر، تَحرُّك جسدك ويديك سريع جدًّا، فكلما حاولت النظر إلى وجهك في منتصف الرسالة تندلع النيران فجأة فيختفي وجهك من أمامي”.

 

لا تقف الرَّسائل عند تفاصيل الحياة الشخصية بين كافكا وميلينا ومتابعة كتابات بعضهما البعض، أو حتى ذكريات الطفولة كما سرد كافكا عن علاقته بالخادمة، أو تفاصيل رحلته إلى النمسا وما تعرض له من متاعب بسبب عدم وجود تأشيرة دخول، أو ما تعلّق بتطورات مرضه، وإنما تتطرق إلى مسألة غاية في الأهمية وهي ديانة كافكا، فكافكا كان يهوديًا إلا أنه لم يكن صهيونيًا، وعلى ما يبدو في إحدى رسائلها إليه أفضت له بشكوكها، فجاء رده في رسالة بتاريخ 30 مايو 1920 – ميران، عنيفًا، حيث يصف تساؤلها بأنه أشبه بالمزحة كنوع من التخفيف عن صدمتها، ويطلب منها ألا تكون قلقة بشأن هذه المسألة، ويحكي لها قصة كنوع من تخفيف حدة القلق.

إلا أنه في نهاية الرسالة يطلب منها أن تكتب له عنوانها بخط مقروء لأنه بحس قلق اليهودي يشعر بأنه فقد إحدى الرسائل. ومرة ثانية يعود إلى الحديث عن الصراع الدائم بين اليهود والمسحيين وكأنهم حيوانات ضارية تود أن تودي بحياة الآخر. كما يحكي لها ما يتعرض له اليهود من كراهية وعنصرية، ومناداة البعض لهم بمجموعة الجربان، وما اعتراه من حالة نفور من المكان.

تقدّم الرسائل صورة نقيضة لصاحب الكتابة السوداوية والكابوسية، ففي الرَّسائل نعثر على شخص متفائل يرى الجمال حوله في تجواله وينعكس كذلك على داخله، وتتسرب الأفكار بعد جولاته في الطبيعة في مخيلته بتدفق وسلاسة، وإزاء هذه حالة من الانتشاء التي يشعر بها، يدعوها هي إلى أن تذهب لقضاء الصيف عند صديقة لها. وإن كانت في بعض الأحيان تنتابه الحالة الكافكاوية فعندما يحلم بها في إحدى المرات، يفقدها في الحلم وكلما سعى إليه يفشل في العثور عليها. وأيضًا تنتابه صورة العاشق القلق على محبوبته، فيصر مؤكدا أنه بلا حيلة “أنا لا أتخلى عنكِ”.

يتحدث في بعض الرَّسائل عن بعض الأشخاص الذين ارتبط بهم، فيحكي عن سبب انتحار رنيير وهو مُحرِّر صغير، بسبب علاقة زوجته بويلي هاس الذي نشر الرسائل فيما بعد، وبالمثل يحكي لها عن أوتو غروس الذي التقاه في رحلة قطار، وعن ميران التي أخبرته عن حب ميلينا لزوجها، ونعتتها ببعض الكلمات السيئة. وتارة نراه يقارن بين قوتها وشجاعتها مقابل خوفه وتردده.

اقتربت الرسائل من عوالم كافكا الداخلية، ومن ثمّ تنبع أهميتها حيث أنها مصدر مهم لقراءة أعمال كافكا مُجدّدًا في ظل هذه الرسائل التي كشفت الكثير عن ظروف الكتابة.

(العرب)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى