عودة سركون بولص

عبده وازن

يحضر سركون بولص عاماً تلو آخر بعد رحيله. وكلّما مرت ذكرى هذا الرحيل تزداد الحاجة إلى قراءته وإعادة قراءته واكتشاف الأثر الكبير الذي تركه في الشعر العربي الجديد وفي الأجيال المتعاقبة. وفي الذكرى العاشرة لرحيله، ندرك أننا لم نقرأ ما يكفي، هذا الشاعر «الأشوري التائه» كما سماه أنسي الحاج، مع أن بصماته منتشرة هنا وهناك، في قصائد كتبها بعض مجايليه وبعض الذين أتوا من بعدهم. هل كان يعلم سركون بولص الذي تأخر كثيراً في نشر أعماله في كتب، أن شعريته ستتجلى بعد غيابه متخطية جدار الزمن؟
نقرأ اليوم سركون بشغف ومتعة. قصائده تغدو كأنها كتبت للحين، لتخاطبنا وتدهشنا وتصدمنا بجمالياتها الفريدة وكثافاتها المختزنة، وفي عمقها الوجودي وانفتاحها على إيقاع الحياة التي لا تخوم لها. كان سركون سباقاً في ترسيخ الحداثة الثالثة التي كان واحداً من روادها القلائل، وفي توسيع رقعة الحداثة بعد ولادتين تاريخيتين، الأولى تمت مع بدر شاكر السياب والثانية مع مجلة «شعر» وشعرائها. بل يمكن القول إن سركون هو الذي فتح أفق حداثة أخرى، لم تكد تظهر إلا قليلاً مع شاعر «هامشي» آخر هو توفيق صايغ، مرتكزاً إلى ثقافته العميقة في الشعر العالمي وبخاصة الشعر الأميركي والانغلوساكسوني الجديد، الذي نادراً ما التفت إليه حينذاك الشعراء المقبلون من ضفاف اللغة الإنكليزية. ولئن كان الشعر الفرنسي، وتحديدا قصيدة النثر الفرنسية، احد المراجع الرئيسة التي استندت اليها مجلة «شعر» توازيا مع مرجعية يوسف الخال الانغلوساكسونية، فما قام به سركون مقتفيا خطى توفيق الصايغ، كان حاسما، في كونه أول من أشرع أبواب الحداثة الأميركية عربياً، ناقلاً مختارات من شعراء جيل «البيت» الأميركي الذي أحدث ثورة جذرية في الشعر العالمي، مع أسماء مثل ألن غينسبرغ وجاك كيرواك وفيرلنغتي…
إلا أن سركون بولص لم ينجرف وراء «موضة» هذا الجيل الأميركي كما حصل مثلاً مع شعراء أوروبيين وفرنسيين خصوصاً وبعضهم ما زال يصرّ على انتمائه إلى هذه «التجربة»، بل ظل سليل جذوره الآشورية والسريانية والعربية، ونجح في الجمع بين الضفتين، وفي صقل شعريته على طريقة الشعراء الكبار الذين ينتمون في آن واحد إلى ذاكرتهم وذاكرة العالم. ومثلما كان سركون صاحب ثقافة شاملة، شرقية وغربية، شعرية وفلسفية، كان أيضاً صاحب وعي حاد باللغة العربية واسرارها، وكان قارئاً دؤوباً للتراث والنهضة والمدارس التي انبثقت عنها. وما يسميه هو «تغريباً» في اللغة الشعرية لم يكن سوى مواجهة للأنساق التقليدية الثابتة وتحرير للغة ذاتها من إرثها الإنشائي وجعلها ابنة الحياة. وفي هذا القبيل، لم يسع سركون إلى صياغة الحداثة الغربية عربياً ولا إلى إعادة صياغتها كما فعل بعض الشعراء. لكنه لم ينكر الأثر الذي كان على الحداثة الغربية أن تتركه في شعره وفق المفهوم العالمي لـ «الاثر». فالشعر هو «خطاب» الشاعر بصفته إنساناً يحيا بحواسه وروحه وعقله. لا ايديولوجيا تسبق الشعر ولا قضية للقصيدة سوى نفسها. والثقافة لا بد ان تصطدم بالفطرة التي هو موقف من العالم. ولعل انكبابه الرهيب على الترجمة كان بمثابة تمرين يومي على الكتابة وعلى التحدي الذي يفرضه فعل المقابلة بين لغة واخرى وثقافة واخرى. ويُهيّأ لي في احيان ان سركون كان يترجم لنفسه وكأنه يكتب ويبدع، أكثر مما كان يترجم للآخرين. والكثير مما ترجم ظل مخطوطا وشبه مجهول طوال أعوام، مثله مثل شعره الأول، ولم يكن يقيض له أن يبصر النور لولا عناية الشاعر خالد المعالي صاحب دار الجمل، الذي يعمل على جمع آثار سركون الكاملة.
ظل سركون بولص ابن مدرسة كركوك التي صاغ معالمها الاولى مع رفاق له مثل مؤيد الرواي وجان دمو وصلاح فائق … وانطلاقاً من كركوك راح سركون يرسم خريطته الجغرافية مكانياً وزمنياً وشعرياً، هو الذي اختار الترحال على طريقة الشعراء البوهيميين: بغداد، بيروت، أميركا، أثينا… أما الأجل فوافاه في ألمانيا. لم يكن سركون يعاني مأساة المنفى، بل كان سعيداً بعض السعادة في منفاه الاختياري. المنفى الذي يرادف لديه «مدينة اين» التي يستحيل الوصول إليها أو لا يتم الوصول إليها إلا وهماً. وخلال المنفى استطاع سركون أن يجعل حال الاقتلاع المكاني حالاً من التجذر في الشعر واللغة. صارت القصيدة تصوغ العالم في اللحظة التي يصوغها الشاعر فيها. بل إن الشاعر المقتلع بات يجلب العالم إلى قصيدته، بات أيضاً يشعرن الحياة. خلق سركون بولص قصيدته بل شعريته وتفرد بهما: إيقاع «منشرح»، لغة بين الصفاء والوحشية، نفَس غير مألوف، تجريب غير مجرد، بصريات وتفاصيل مرئية، سرد متخفف من سرديته، أبعاد ميتافيزيقية، عين داخلية أو رائية، مشهدية حاضرة بماهيتها، حواس وانتشاء….
عام 1983 التقيت سركون بولص في بيروت، كان في التاسعة والثلاثين ولم يكن أصدر ديوانه الأول. كان رائعاً وساحراً، بعفويته وبداهته ونظرته النقدية وثقافته الهائلة. كانت عودته الأولى إلى بيروت بعدما غادر منها إلى أميركا، عالمه الجديد. ولم يمض عامان حتى صدر ديوانه الأول «الوصول إلى مدينة أين». وتم الاحتفال به وتم رصد الآثار التي تركها شعره في الشعراء الذين نهلوا منه سراً أو علانية.

(الحياة)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى