‘كمستير’ .. قصص البحث عن الذات

السيد نجم

 

المجموعة القصصية “كمستير” هي جواز التعارف الأدبي مع القاص جعفر العقيلي، ولا أعلم عن سابق أعماله المنشورة خبراً، ومع ذلك سعدت بقراءة تلك المجموعة التي وشت بالتعبير عن ذهنية متوقّدة تبحث عن شيء ما في مجمل قصص المجموعة، ربما فيها وبها سيبحث القاص عن ذاته الفنية وخصوصيته الأدبية.

بالرغم من غلبة الحكائية ﺇلّا أن هناك بعض النصوص التي جعلها ممزقة في غير تسلسل زمني، بل على سلسلة من الأحوال.. ففي قصة “كمستير” التي هي تلك اللعبة التي يعدو فيها الصبي نحو الصبي الآخر المختفي والمتخفّي عنه.. لكن اللعبة هنا بين الشخصية المحورية ورأسها، وبعد كل فقرة مناسبة ينتقل السارد زمنياً وربما مكانياً، والأهم ينتقل شعورياً.. حيث يطارد رأسه الذي ذهب بعيداً عنه.. وبعد مطاردات عدة عادت رأسه، وعرفه الجميع بها إلّا هو لم يعد يعرف!

وهناك قصص أخرى شيّدها القاص على لسان شخصين على الرغم من الحكائية، إذ نسمع (نقرأ) حكايتين.. ففي قصة “لقاء وحيد”، الشخصية الأولى لشاب يسعى جاهداً أن يعدل من مستواه اﻹجتماعي، وقد حضر من الريف والتحقَ بالجامعة، ثم عمل نادلاً في مقهى.. ويتمنى لو يجد ﺇحداهن تشاركه الرحلة وتشبعه حباً.. بينما الشخصية الأخرى فتاة تخشى أن يعبرها قطار الزواج، وتشكو حظَّها كل ليلة.

فلّما التمعت عينا الشاب قالت هي ما يعني “أن تلحق بذيل القطار أفضل من أن تبقى بلا زواج”.. فلما حضرت المقهى، وقرر الشاب التعرف ﺇليها، خلع المنديل وتحول ﺇلى زبون، لكن باقترابه منها اتضح أنها تكبره بسنوات.. وفشل المخطَّط.

يغلب على العالم القصصى للعقيلي، اﻹنغماس في الواقع اﻹجتماعي والفرار منه ببعض التوظيف الفنتازي أحياناً، وهي حيلة عجز الفرد الواحد على حل مشكلة الجماعة حتى وﺇن كان منها.

ففي قصة “علامة فارقة”، تلك هي الشعرة التي ابيضّت أو هي شعرة شابت وتمردت على بقية الشَّعر.. ومن أجل تمردها وفشل السارد في نزعها قرأ عن كل ما يتعلق بالشَّعر على شبكة الإنترنت.. وبقيت الشَّعرة تغازله وتتحدّاه سواء مع زوجته أو مع مديره في العمل، ما جعلنا نقرر أن بقاء تلك الشَّعرة علامة فارقة في حياته، ومعها اكتسب خبرة التحدي، ولم تش القصة بنجاح صاحب الشّعرة في القضاء على المشاكل التي يواجهها، ومع ذلك هناك مشاعر جديدة ﺇنتابته، وفارقة!

يغلب توظيف ضمير المتكلم على أكثر من نصف عدد القصص، وهو ما يشي بمحاولة القاص أن يبعث برسالة فنية ﺇلى القارئ أنه صاحب كل تلك التجارب، وعلى القراء أن يصدقوه أو يعترفوا بما ﺇنتهى ﺇليه من أفكار وآراء.

في المقابل، رغم أن ضمير المخاطَب أكثر إقناعاً، إلا أن القاص لم يستخدمه، ربما ليترك مسافة بينه وبين القارئ، لعدد من اﻹعتبارات، منها قبول أو رفض بعض الآراء التي عبَّرت عنها بعض القصص.

ففي قصة “خيبة أخرى” تعلق بعض الأردنيين بما أشيع من أن الأردن سينضمّ ﺇلى مجلس التعاون الخليجي، وهو ما فتح أبواب الأحلام على آخرها.. ولأن الكاتب يرفض التعلُّق بالحلم، لم يستخدم ضمير المتكلم الغالب في قصص المجموعة، وبدت الجمل والفقرات وكأنها نشرات ﺇخبارية بما يتناسب مع نهاية القصة: “نالت منه هموم الدنيا من جديد فور أن ﺇكتشف أن اﻹنضمام لمجلس التعاون محض مقالة حالمة لن تغادر دائرة الأمنيات!”.

تبدو الحرية من طرفٍ خفيّ باعثاً جاهزاً وراء أفكار قصص العقيلي، وإن عالجها في غير التناول المباشر، بل كثيراً ما جعلنا نتساءل عن الحرية، بينما لم يشر ﺇليها..

إذ تبدأ قصة “دوار” (مقاطع من تكتكة) بـ: “ﺇنه قدري، وهل يملك مَن هو مثلي من أمر تغيير قدره شيئاً؟!”، وجاء في القصة: “آه، لو كنت خُيّرت في ما سأكونه! هل أرتضي أن أوجَد على هيئتي هذه، يقيّدني لرجل خشن بمعصمه”. وهكذا، حتى نعرف أنها الساعة التي في معصمنا، مقيَّدة بالزمن، والزمن مقيَّد بها.. ويختم السارد هذه القصة قائلاً: “يا لها من مفارقة! لستُ في آخر المطاف، سوى ساعة.. مجرد ساعة، تضيع وقتها لتمنح أوقاتكم معنى!”.

تبدو قصص العقيلي على النقيضين: التناول للأمور البسيطة والأحداث المفردة غير المركَّبة أو المعقَّدة.. ثم في العمل نفسه يبدو العالم الفنتازي والمبالغ في البحث عن غور اللحظة هناك بعيداً، حتى تبدو القصة أحياناً صعبة الفهم إلا بعد قراءتها أكثر من المرة.

بالعموم، تعبّر القصص عن هواجس المثقف والفرد الذي ينتمي إلى العامة، لأنها محاولة دائمة للبحث عن الخفي الظاهر.. الأمل والمأمول، البعيد القريب.. تبحث عن الحرية.. فالسارد يرفض القيود مهما كانت، حتى قيود رأسه فوق رقبته، وحتى قيود اﻹرتباط بالمعصم من خلال ساعة من المعدن!

وتبوح قصص المجموعة بمحاولات جادة لإعادة بناء القصة القصيرة العربية، شكلاً فنياً وفي مضامينها المعبّرة عن القلق المعاصر.. وعلى الرغم من لجوء القاص ﺇلى العجائبية ﺇلا أننا لم نشعر بالفنتازيا واﻹغتراب.. فالتكثيف والسرد غير الممل هنا سمةٌ واضحة، خصوصاً أن قصص المجموعة تعبّر عن هموم الناس في الشارع وفي مكاتب العمل وداخل المنازل.

ربما فى فرصة أخرى يتاح لى قراءة أطول وأعمق، مع هذا الجهد الفنى المتميز للقاص الأردنى “جعفر العقبلى”.

(ميدل ايست اونلاين)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى