خمسة أيام مع كازو إيشيغورو في بودابست

صبري حافظ

سررت كثيراً حينما سمعت نبأ حصول الكاتب البريطاني- الياباني كازو إيشيغورو على جائزة نوبل للآداب هذا العام. فقد أتاحت لي الظروف معرفة هذا الكاتب على الصعيدين الأدبي والشخصي قبل ما يقرب من ثلاثين عاماً، بحيث أمضيت معه، وكانت معه أيضاً زوجته الاسكتلندية الرائعة لورنا ماكدوغل، خمسة أيام حافلة في بودابست، في لحظة تاريخية فاصلة وحرجة في تاريخ عالمنا المعاصر. كان ذلك في شهر حزيران (يونيو) عام 1989 حينما نظمت مؤسسة تُدعي «مؤسسة ويتلاند Wheatland Foundation » التي كانت ترأسها واحدة من أغنى أثرياء أميركا، وهي آن جيتي، مؤتمراً أدبياً ضخماً في تلك المدينة. وكانت سمعة هذه المؤسسة، وتحضيراتها الجيدة لمؤتمراتها الأدبية قد استقطبت اهتمامي، عندما تابعت مؤتمرها الأول الكبير الذي عقد في نيويورك عام 1987. وإعلانها فيه عن أن مؤتمرها التالي سيعقد في البندقية، وأنها تهتم في مؤتمراتها بالحوار بين الأدب الأميركي والآداب الأوروبية الكبيرة: الانكليزي والفرنسي والألماني والإيطالي؛ لكنها تعتزم أن تدعو في كل مؤتمر أدباً آخر من آداب العالم الأخرى للاهتمام به.
لذلك حينما تلقيت عام 1988 من تلك المؤسسة دعوة للمشاركة في مؤتمرها الذي ستنظمه في بودابست في حزيران عام 1989، والذي أشارت إلى أنه سيهتم بآداب أوروبا الوسطى أساساً، وسيكون ضيفاه هما الأدب العربي والأدب الأفريقي، لبيت الدعوة؛ مع أنها كانت المرة الأولى التي اسمع فيها عن هذا المصطلح الغريب، آداب أوروبا الوسطى. فقد كنّا ما زلنا في زمن انقسام العالم إلى معسكرين شرقي وغربي. وكانت الدعوة سابقة لانعقاد المؤتمر بما يقرب من العام. وقد جاءتني الدعوة باعتباري ناقداً مصرياً وأستاذاً في كلية الدراسات الشرقية والأفريقية في جامعة لندن، وطلبت مني كتابة ورقة بالإنكليزية في حدود ثمانية آلاف كلمة عن الأدب العربي في الثمانينات. كما اتصلت بي السكرتيرة التنفيذية لتلك المؤسسة تطلب مني ترشيح عدد من الأسماء البارزة والفاعلة في المشهد الأدبي العربي لدعوتهم للحضور. وكانت طريقة تنظيم المؤتمر مهنية لأقصى حد، حيث يكلف ناقد بكتابة بحث بالإنكليزية، وهي لغة المؤتمر، عن كل أدب مشارك، يوزع على المشاركين فيه من الآداب الأخرى مقدماً وقبل القدوم لبودابست لقراءته، ومعرفة راهن هذا الأدب وقضاياه، ثم يخصص نصف يوم لكل أدب، يُعرض في أوله موجز للبحث، وقد جلس كل ممثلي هذا الأدب على المنصة، ويفتح نقاش بينهم وبقية المشاركين في المؤتمر حول مختلف قضاياه.

أسماء مرموقة
وكانت قائمة المدعوين تتضمن أسماء كبيرة مرموقة من الولايات المتحدة وعلى رأسهم سوزان سونتاغ التي لم أكتشف مدى صهيونيتها إلا في هذا المؤتمر، ومن فرنسا وعلى رأسهم ألان روب غرييه وروسيا التي جاء منها أهم شعرائها أندريه فوزينزينسكي وبريطانيا التي جاء منها دافيد هير وكازو إيشيغورو وأنجيلا كارتر وأميتاف غوش وكريستوفر هوب وغيرهم. أما الأدب الأفريقي الذي كان الضيف الآخر للمؤتمر، فقد كان فيه كتاب كبار من عينة تشنوا أتشيبي ونادين غورديمر ونور الدين فرح وغيرهم. وحينما وصلنا إلى بودابست، وكان في الوفد الذي يمثل الأدب العربي إدوار الخراط ومحمد برادة وبهاء طاهر وإميل حبيبي، ثم وصل بعد بداية المؤتمر بيومين أدونيس ومعه كمال أبو ديب، اكتشفنا أنه بجانب الوفود الأوروبية العديدة والوفد الأميركي الكبير، كان هناك وفد من دولة الاستيطان الصهيوني. وكانت هذه أول صدمات هذا المؤتمر.
لأننا سرعان ما اكتشفنا أن وراء المؤتمر الذي انعقد في اليوم التالي للاحتفال الكبير بإعادة دفن إيمرا ناجي، قائد التمرد الذي أدى إلى الغزو السوفياتي لهنغاريا عام 1956، في ميدان الأبطال وسط بودابست في احتفال كبير، أجندة سياسية ماكرة. يديرها بدهاء من خلف الستار، وفي أروقة الفندق الذي تقيم فيه الوفود، اللورد فايدينفيلد الذي كان مستشاراً لآن جيتي ومنظمتها، وما أدراك من هو اللورد فايدنيفيلد. إنه جورج فايدينفيلد (1919-2016) اليهودي الذي ولد في النمسا وهاجر لبريطانيا بعد ضم هتلر لها، وتفرغ للعمل في المنظمة الصهيونية إبان تأسيس دولة الاستيطان الصهيوني في فلسطين، وأصبح سكرتيراً لحاييم وايزمان أول رئيس للدولة العبرية. ثم أصبح بعد ذلك ناشراً بريطانياً وناشطاً سياسياً من وراء ستار، حتى عينه أكثر وزراء بريطانيا ميلاً للمشروع الصهيوني، هارولد ويلسون، عضواً في مجلس اللوردات، الذي واصل منه العمل على الأجندة الصهيونية.
وبدأ يتكشف لنا أن وراء هذا المصطلح، آداب أوروبا الوسطى، الذي استغربته في البداية عملاً مكثفاً ضمن مشروع إنهاء الوجود السوفياتي في أوروبا الشرقية، حيث بدا أن ثمة تركيزاً واضحاً على آداب بولندا وتشيكوسلوفاكيا وهنغاريا تمهيداً لما جرى بعد هذا المؤتمر بشهور من هدم حائط برلين، وانهيار الستار الحديدي ونهاية زمن القطبين. وكانت أحداث ميدان تيانانمين الشهيرة في بكين قد جرت في الشهر السابق لانعقاد المؤتمر، وكان همّ سوزان سونتاج الأول هو أن يصدر بالإجماع عن المؤتمر قرار يدين الصين على وحشيتها في قمع التظاهرات، وكان شرطنا في الوفد العربي للتوقيع أن يضم القرار إدانة للممارسات الصهيونية البشعة ضد الانتفاضة الفلسطينية التي كانت لا تزال مستمرة. وهو الأمر الذي رفضته باستماتة؛ خصوصاً أن سعي هذا المؤتمر لتحقيق التطبيع بين الكتاب العرب ووفد دولة الاستيطان الصهيوني لم ينجح حينما قرر معظم المشاركين، باستثناء أدونيس ومترجمه حيث كانا يرعيان أمله في نوبل، عدم حضور جلسة هذا الوفد. وهو الأمر الذي لم يغب عن المنظمين، وأثار غضبهم وغضب الوفد الأميركي بخاصة. (…)

أعمال إيشيغورو
لكن ما دفعني لكتابة هذه الذكريات القديمة هو فوز كازو إيشيغورو بجائزة نوبل. وكيف أن مداخلتي للرد على كاتب الورقة الإنكليزية، والتأكيد على مكانة المسرح الإنكليزي وأهميته، وذكري لعدد كبير من أهم المساهمين فيه في سبعينات القرن وثمانيناته، استقطبت اهتمام عدد من المشاركين في الوفد الإنكليزي، ودفعتهم للحديث معي، وتوطدت العلاقة أثناء المؤتمر عندما عرفوا أنني أقيم في لندن مثلهم وأعمل في أهم جامعاتها. وكان اهتمامي بالتنظير للكتابات العربية الجديدة، وأعمال جيل الستينات العربي خاصة، وما أحدثوه من نقلة سردية مميزة، قد دفعني إلى الاهتمام بالأعمال الروائية الإنكليزية منذ سبعينات القرن الماضي واستمراراً في ثمانيناته، وبتلك النقلة السردية التي أحدثتها في الرواية الإنكليزية، ومن بينها أعمال كازو إيشيغورو وتيموثي مو وبين أوكري وسلمان رشدي وأهداف سويف وغيرهم من الكتاب الذين كانت أعمالهم قد بدأت تترك بصمتها على حاضر الرواية الإنكليزية. وقد آثرت التنظير لما كانوا يقدمونه بما دعوته بكتابة الذات الفاقدة لمركزيتها Decentered Self والقادرة بسبب نشأتها في- بين ثقافتين أن ترى الثقافة من الداخل والخارج على السواء، وأن تصبح الذات والآخر معاً. وهو الأمر الذي يميز كتاباتهم، ولا تستطيعه الذات المتمركزة على ذاتها، وعلى صراعها مع آخر أجنبي.
وكنت قد قرأت رواية إيشيغورو الأولى «مشهد باهت للتلال» A Pale View of Hills) 1982)، والثانية «فنان العالم الشارد/ الهائم» An Artist of the Floating World) 1986)، لكني لم أكن قد قرأت وقتها روايته الثالثة «بقايا النهار» The Remains of the Day) 1989) التي أصبحت أشهر رواياته بعد فوزها بجائزة البوكر. ولما ناقشت معه فكرتي عن الكتابة الفاقدة لمركزيتها، وكيف أنها تضيء لنا جوانب في روايتيه لم يكتشفها النقد الإنكليزي في تعامله معهما. وكيف أن «إتسوكو» راوية الرواية الأولى وهي يابانية تعيش في بيت ريفي في جنوب إنكلترا، استطاعت بسبب قدرتها على رؤية ما دار لها في اليابان، ونجم عنه ابنتها الكبرى كيكو من زوجها الياباني الأول جيرو أوغاتا، من الخارج والداخل على السواء، هو سر أهمية المسكوت عنه في تلك الرواية إبان زيارة ابنتها نيكي، وهي ابنتها الثانية من زوجها الإنكليزي الراحل شيرنغهام. وكيف ظل لهذا السبب انتحار كيكو في مانشستر، يناوش السرد ويزعزع أي مركزية له. وكيف أن هذا هو سر حيوية السرد الذي يتحرك بحرية في الزمان، عبر ذاكرة إتسوكو وأحلام يقظتها، والمكان بين ناكازاكي في اليابان وبريطانيا وعقب زيارة «نيكي» لأمها من لندن، حيث مكثت معها خمسة أيام في شهر نيسان (أبريل)، وهو أقسى الشهور كما تقول لنا «الأرض الخراب» لإليوت.
وقد شاقته هذه القراءة، وليس ثمة ما يرسخ بدايات أي علاقة مع كاتب أكثر من أن تكون قد قرأت لها شيئاً، وأن تناقشه في قراءة لم يتعرف على مثلها من قبل. وكانت هذه البداية مدعاة لأكثر من حديث طويل أثناء التنقلات العديدة بين المواقع التي كانت تحدث في حافلة أعدها المنظمون للمشاركين، أو في فترات ما بعد الغذاء وقبيل الجلسات أو بينها. وما دعم هذه البداية أن زوجته، لورنا ماكدوغل، والتي رافقته في تلك الرحلة كانت أخصائية اجتماعية، فلما أخبرتها أنني بدأت حياتي العملية أخصائياً اجتماعياً، ورأست وحدة اجتماعية في إحدى قرى الدلتا بمصر لثلاث سنوات، شاقتها تلك التجربة وطلبت مني المزيد من المعلومات حولها. المهم أنه بدأ بيننا ما يمكن تسميته ببدايات صداقة مبشرة، توطدت أثناء الرحلة بحديثي أكثر من مرة مع «إيش»، وهو الاسم الذي يناديه به أصدقاؤه، عن روايتيه. وسره وقتها أنني ربطت من خلال ذلك الطرح النظري للكتابة الفاقدة للمركزية بين السيد «أوغاتا المبجل» حمو بطلة الرواية الأولى، وهو يتخبط في بيت عنكبوت رهيب يحاول فيه عقلنة ما قام به إبان الحرب العالمية الثانية، والتنقيب في طوايا الذاكرة بحثاً عن تبرير أخلاقي وعقلاني لحياته، وبين الرسام أونو بطل روايته الثانية في تخبطه في مواجهة أسرار ماضيه المخزية.
وحتى لا يتحول هذا المقال إلى دراسة عن أعماله الأولى، وهو أمر جدير بالإنجاز، أعود إلى مواصلة الحديث عن الجانب الإنساني لهذا الكاتب الجميل الذي يصفه أحد أقرب أصدقائه إليه بأنه من هذا النوع النادر «فنان بلا ذات متضخمة» (An artist without Ego)، كما يقول صديقه لأربعين عاماً الناقد روبرت ماكروم. وهو ما يستدعي العودة إلى أجندة هذا المؤتمر المضمرة. فعندما أخفق في تحقيق التطبيع بين العرب والصهاينة في الجلسات المفتوحة، باستثناء كاتب واحد كان يسعى وقتها لنوبل، عمدوا إلى إجلاس الكتاب العرب بجوار كتاب من دولة الاستيطان الصهيوني على موائد العشاء التي كانت تخضع لتنظيم دقيق، وكان العشاء فيها بأطباقه المتتابعة يستمر لساعتين أو أكثر. فما أن ننزل من الحافلة وندخل قاعة العشاء التي كانت تتبدل كل مساء، حتى نجد أن الموائد مجهزة، وأن مكان كل شخص محدد سلفاً بمائدة معينة، واسمه في بطاقة توضح مكان جلوسه عليها، وبالتالي تحدد مع من يدير حواره طوال العشاء. وحينما وجدت أنهم أجلسوني بجوار واحد من هؤلاء، طلبت من «إيش» و «لورنا» أن أبدل مكاني مع أي منهما، وهو الأمر الذي تفهماه بسهولة، وأنجزاه بسرعة البرق. بل إن «لورنا» بادرت في العشاء التالي، بتغيير مكان البطاقة بنفسها حينما اكتشفت قبلي أنهم فعلوا الشيء نفسه. هذا جانب آخر من جوانب هذا المبدع والإنسان الرائع الذي أسعدني فوزه بالجائزة.

(الحياة)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى